لا توجد مشكلة في توفير ضمانات للدولة العميقة، أو حتى تلك التي على السطح تحت عنوان تقاسم السلطة التنفيذية لاحقا مع أحزاب سياسية. لكن المشكلة هنا أن تلك الأحزاب غير موجودة حتى الآن وبالتالي هناك ملاحظات حول كيفية ولادتها.
لا توجد مشكلة لها علاقة برسائل تنقلب على الدستور لأن ما تقوله التعديلات الدستورية هو أن الدولة أو دوائر القرار لا تريد الاسترسال في الاعتداء على الدستور تحت بند مقتضيات واحتياجات الدولة، والظروف الراهنة في الإقليم والعالم. لكن بالمقابل لا يوجد «منقلبون على الدولة» تحت عنوان الاعتراض على التعديلات الدستورية، فلا تلك التعديلات «انقلاب على الأردنيين» ولا الأردني «انقلابي» عندما يعترض على تعديلات لا يعلم عنها شيئا.
الدولة قررت «دسترة» أمر واقع، فالصلاحيات كانت تدار بشكل مركزي بكل الأحوال، لكن الأهم أن التعديلات الدستورية فيها رسالة ضمنية تقول لي كمواطن إن الدستور تم تعديله عبر البرلمان وأفترض بالتالي أن من «عدلوا الدستور لاحقا سيحترمونه».
تلك قد تكون رسالة «التزام ووعد» ليس كلها سلبية لكنها ستنتهي بمشكلة عويصة وعميقه إذا ما ترافقت عملية نقل الصلاحيات حسب الهيكل الجديد للدولة مع أولا: استمرار أزمة الأدوات.
وثانيا ـ استمرار إساءة استعمال الصلاحيات من قبل جهات تنفيذية..هنا الحائط التالي ينتظرنا بعد الدماء التي سننزفها عند الحائط الأول حيث تصدق مقولة البعض عن»مواجهة بين المؤسسة والناس». لا أحد له مصلحة في هذه المواجهة وثقة الناس بالمؤسسة الملكية هي الأساس.
في الماضي القريب طوال الوقت الناس لا تثق بالبرلمان ولا بالحكومة، وغالبا ما أسيء استخدام سلطتي التنفيذ والتشريع عبر فعاليات الهندسة التي ستخشى مراوغة مجلس الأمن القومي لاحقا على الأقل.
نزع صلاحيات أو قضمها من الحكومة والولاية العامة ومنحها للمؤسسة المرجعية قد يكون مفيدا في فلترة وتنقية الإجراءات والقرارات.
واحدة إضافية من المزايا يمكن النظر لها من زاوية إيجابية بعد تدوير الزوايا هي تلك المتعلقة بوقف نزيف إساءة استخدام السلطة من قبل الحكومة ومجلس النواب مقابل توفير مساحة لنوعية مختلفة مسيسة وحزبية وبرامجية من النواب، وتوفير بالتالي عبر تلك الأحزاب والمشاورات نوعية مختلفة من وزراء السلطة التنفيذية.
اليوم يوجد فلتر مركزي باسم الأمن القومي يربط المعطيات ببعضها البعض، وهذا يعني ولادة مؤسسة دستورية مرجعية جديدة تشرف على السلوكيات الأمنية
هذا يمكن أن يكون إيجابيا وفعالا جدا إذا ما توفرت الارادة السياسية المرجعية لتجاوز أزمة الأدوات، والحرص على دعم البرامج بإطارها الديمقراطي الذي سمح به لاحقا، بمعنى توفير إرادة سياسية عميقة جدا لضمان عدم إساءة استعمال السلطات الدستورية لاحقا ومن قبل أي جهة في كل الأحوال.
الوضع الجديد ديناميكي وعنصر الإثارة تجلى فقط في أن الحكومة ودوائر الحلقات الوسيطة أخفقتا في شرح الأمر للناس، وفي تقديم وجبات من الشرح حول الضرورات لهذه الاحتياجات، لكن الوعد بعد التعديلات الدستورية قد يكون بتغيير شكل الحياة السياسية..هذا مفيد.
من النقاط المهمة والمثيرة للانتباه أيضا أن غالبية قواعد السياسيين في العمل الشعبي والحزب الأردني تشتكي من التعسف الأمني.
اليوم يوجد فلتر مركزي باسم الأمن القومي يربط المعطيات ببعضها البعض وهذا يعني ولادة مؤسسة دستورية مرجعية جديدة تشرف على السلوكيات الأمنية، سواء تعلق الأمر بالأمن السياسي او حتى بالأمن الاجتماعي.
هذا أيضا جديد ومثير وقد يكون مهما لأن واحدة من أبرز الاشكالات التي عاني منها الأردنيون طوال عقود تمثلت في إساءة استعمال الصلاحيات الأمنية.
اليوم توجد مؤسسة دستورية مرجعية مختلطة ما بين العسكري وبالتالي الأمني والمدني والسياسي والدبلوماسي، وقد تساهم في تجاوز «حالة المطاط» التي تتزاحم بسببها الاجتهادات في الميدان.
وجود فلتر كبير بهذا الحجم الدستوري يمكن أن يشكل إضافة نوعية أيضا لأنه يحدد مفاصل التصرف والسلوك بكل المسارات الداخلية والخارجية ويمكنه أن يضبط قاعدة الاجتهاد الفردي والشخصي عند أي عنصر بيروقراطي بعد الآن..وهذا جديد ومثير للانتباه، ويمكنه أن يشكل قفزة حقيقية إلى الأمام إذا حسنت النوايا.
ما تبقى أيضا من ملاحظات قد تكون له علاقة بجزئية أن وجود هذا الفلتر الدستوري المهم بالصلاحيات المعهودة وسيطرته على الميزانيات المخصصة للمؤسسات المعنية قد ينطوي على «تحديث وتطوير».
بمعنى تغيير بعض العقائد والتصرفات المستقرة والتي تطلبتها ظروف متعددة في تاريخ الدولة الأردنية بالمئوية الجديدة وصناعة سياسات واستراتيجيات أمنية جماعية تملك قوة دستورية ومن الصعب تجاهلها.
بالتالي طبيعي أن نتوقع أن تتغير الفلسفه الأمنية بعد تغيير هيكلية المنظومة الأمنية وأن ترسم عبر مجلس الأمن القومي الجديد سياسات فاصلة تخلط أو تنظم العلاقة ما بين الأمني والسياسي مستقبلا، وبالتالي الدولة القديمة تصبح برامجية أكثر على الطريقة الأمريكية والغربية والديمقراطية في مواجهة حكومة ايضا برامجية.
لم ينقلب أحد على أحد.. إذا ما حسنت نوايا الأردنيين وتجمعوا حول مؤسساتهم وإذا ما أجادوا التعامل مع هذا المستجد الدستوري المهم يمكن أن يشكل بداية جديدة وحقيقية تصنع الأمل في المستقبل.
إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»