باختصار ومن الآخر، الافتقاد المفاجئ للشعور بالأمان بعد 30 عاما من اتفاقية السلام مع الكيان الإسرائيلي هو المحرك الرئيسي لتفاعلات الشعب الأردني مع معركة غزة وطوفان الأقصى.
الشارع الأردني يتجاهل الآن كل أنصاف الخصومات والأجندات وتركيزه شديد فقط على ما يحصل «غربي النهر».
لا يحتاج إدارك الحقائق وتلمسها لكل تلك النظريات المعلّبة البائسة التي نسمعها أو نقرأها أحيانا مثل سعي إيران لاختراق الشعب وخطة الإخوان المسلمين للمساس بالأمن والاستقرار وتعريض السلم الأهلي وشبكة المصالح للخطر.
تلك كلها على الأرجح إسطوانات مشروخة لا معنى لها.
كل ما في الأمر يا سادة يا كرام أن المواطن الأردني لم يعد يشعر بالأمان وهو يرصد يوميا تلك المحرقة النازية التي يصمت عليها النظام العربي الرسمي وتلك الجريمة البشعة التي يتواطأ معها الشريك الأمريكي. الضحية «شقيق في الدم والجغرافيا» والمجرم «شريك السلام» وغطاؤه أمريكي مسنود بمليار و700 مليون دولار من المساعدات التي أصبحت قيدا على كرامة الناس.
الإسناد «الأحمق» غربيا وأمريكيا لإسرائيل «الهمجية» أسقط في سايكولوجيا الأردنيين كل الموروث منذ 30 عاما عن السلام والتعايش لان من يرتكب الجريمة ويحرق نساء وأطفال غزة اليوم هو حصرا اليمين الإسرائيلي الذي يعلن نيته ضم الضفة الغربية ويستعمل خرائط تعتبر المملكة الأردنية الهاشمية جزءا من إسرائيل الكبرى، وهو نفسه اليمين الذي يؤكد يوميا على نيته تقويض الوصاية الأردنية في القدس وضم الأغوار في كتف الأردن.
أي نظريات عن تسلل واختراق بتوقيع تيارات حزبية وشعبية محلية أو أجندات من أطراف تطلق على نفسها اسم محور المقاومة مجرد هرطقة إعلامية لا أكثر لا تمت للواقع بصلة، فالأردني الذي يشاهد اليوم طائرات إسرائيلية مقاتلة تحرق اللحم البشري في مراكز إيواء النازحين التابعة للأمم المتحدة في غرب رفح لم يعد يؤمن بأن حبل النجاة متاح له غدا.
أي نظريات عن تسلل واختراق بتوقيع تيارات حزبية وشعبية محلية أو أجندات من أطراف تطلق على نفسها اسم محور المقاومة مجرد هرطقة إعلامية لا أكثر
سألتني زميلة فرنسية عن غرائب التضامن الأردني مع المقاومة وأهل غزة فأبلغتها بقناعتي بأن المسألة وجدانيا مرتبطة بنمو كبير وغير مسبوق للإحساس بالخطر فإسرائيل التي يعرفها من وقّع معها اتفاقية وادي عربة لم تعد تلك الإسرائيل، ومن يقول ذلك هو وزير للخارجية وأول سفير للأردن في تل أبيب.
بحثت بمسؤولية عن أي أمل قد لا يفهمه البسطاء أمثالي في مساحة السلام والشراكة وكلام الماضي مع الإسرائيليين. ليس سرا إني قابلت لأغراض البحث والاستقصاء والفهم كل من تبقى على قيد الحياة في عمّان حتى اللحظة من المفاوضين الوطنيين الذين قيل لهم إنهم نجوم وأبطال إنجاز اتفاقية وادي عربة. لم أسمع من هؤلاء ولا كلمة طيبة واحدة مقتنعة بالسلام والتطبيع، لا بل لا أذيع سرا إن قلت إن جميع من قابلتهم أو سمعتهم بما في ذلك الراحل الدكتور عبد السلام المجالي قبل وفاته قدموا إفادات مغايرة لما سمعه الشعب الأردني قبل 30 عاما مضمونها وفكرتها أن عملية السلام وهم، وأن الدولة برسم الخطر.
عبقرية التقاط مجسات المخيلة الأردنية البسيطة للأحداث أهم بكثير من مهنية وتحليل جيل اليوم من السياسيين والبيروقراطيين. المواطن الأردني يشتم الخطر وخبير به.
ليس من باب الصدفة أن نسمع فعلا جنرالات متقاعدين من أفضل الأردنيين يتحدثون اليوم عن وهم السلام، لا بل يقترح بعضهم أنماطا من الجاهزية والاشتباك مع عدو غاشم مريض مختل خطته الوحيدة التي انتخبت حكومته على أساسها هي إلحاق الأردن بالمشروع الإسرائيلي ومعنى ذلك طبعا الوطن البديل.
سمعت صديقا من كبار رجال الدولة يغرق في المفارقات والمقاربات وهو يتحدث عن دولة أردنية راسخة ومؤسسات لا تستطيع إسرائيل العبث معها… كلمات صلبة وترفع المعنويات بلا شكوك والإيمان بالمؤسسات الأردنية هو حجر الرحى بالنسبة لأي مواطن لكن الناس تراقب تلك الإسرائيل وهي تضرب بحذائها القانون الدولي والمجتمع الدولي والولايات المتحدة وحلفاءها وأربابها في الماضي معا. والمواطن الأردني يرصد ويرقب، ويعيش مع خذلان الدول العربية والإسلامية، أهل غزة في محرقتهم.
لا يتعلق الأمر بفقدان إيمان الأردني بمؤسساته بقدر ما يتعلق بشغفه الكبير في بقاء هذه المؤسسات وصلابتها حتى لا يأتينا العدو جميعا من خاصرة مؤلمة.
يميل الناس بعد الإيمان بالمؤسسات لتحصينها ولإبقائها بعيدة عن الاحتكاك بعدو لا يرحم.
إنه الشعور بعدم الأمان باختصار شديد والتقييم الشعبي البسيط الغرائزي القائل بأن السلام والتطبيع والاتفاقيات إزاء ما يحصل في غزة يوميا لم تعد عناصر ضامنة لأصغر تلميذ أردني لا في حياة كريمة ولا في تجنب الشر.
بصراحة قد تكون مؤلمة، كل تضامن الأردنيين مع المقاومة جذره الأعمق إحساسهم بالخطر وسعيهم لمعادلة تتوقف عن إنكاره.
لا تظلموا الناس، وتجنبوا تشويه صدق نوايا الأردنيين، بدلا من الحديث المريض عن أجندات وشياطين.
إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»