رسالة الملك للجنرال حسني توسعت في الحديث عن الاستثمار وتراخيصه وعن هيئات دستورية تستطيع متابعة ملفات الفساد بعيدا عن منظومة الأمن التي ينبغي أن تعود إلى الالتزام بالاختصاص.
عمان-“القدس العربي”: لا يزال الوسط السياسي والبيروقراطي وحتى البرلماني والإعلامي الأردني يبحث عن تفكيك لخلفية وألغاز ونتائج وتداعيات رسالة مهمة وجهها الأسبوع الماضي العاهل الملك عبد الله الثاني إلى مدير المخابرات العامة اللواء أحمد حسني.
علنية الرسالة كانت هدفا بحد ذاتها على الأرجح وقادت بالنتيجة إلى نقاشات ومقالات وآراء تحاول تلمس الوقائع وتوقع الإجراءات اللاحقة.
لأول مرة عمليا تسمح رسالة ملكية بتسليط الأضواء على منظومة الأمن العميق تحت عنوان إعادة الهيكلة وقراءة المشهد كما كان قبل عقود وما يمكن ان يستجد من أجندات خصوصا على الصعيد الدولي والإقليمي.
تصمت المؤسسة الأمنية وترصد نماذج تلك النقاشات وتتصرف حتى الآن بروح الجندية العسكرية وسط مبالغات خارج النص الملكي أحيانا ووسط تكهنات مفتوحة على الاحتمالات أحيانا أخرى.
الفارق الوحيد الذي يكاد يجمع عليه المراقبون حتى الآن عند محاولة فهم الخلفيات هو ذلك المرتبط إلى حد كبير بما قاله عضو البرلمان الإسلامي السياسي والإعلامي المعروف عمر العياصرة في نقاشات الميزانية المالية وهو يتحدث عن ضيق اقتصادي ومعيشي ومشوار المجهول المالي والاستثماري بحكم ظروف العالم والمنطقة والوطن.
العياصرة التقط الرسالة ناصحا وبصخب وهو يتحدث للوزراء والحكومة وللدولة كما أشار تحت قبة البرلمان بصيغة: “الانتقال وفورا للانفتاح والإصلاح السياسي”.
مثل هذا الانتقال وصفة أردنية قديمة وخبيرة في الأزمات الاقتصادية والمالية، فالانطباع العام أن أزمة الدولة المالية قد لا توجد حلول مؤثرة لها قريبا، وان الأزمة المعيشية جراء تداعيات فيروس كورونا هي التي تدفع قبل أي اعتبار آخر باتجاه خطوات سريعة وواسعة قليلا نحو الإصلاح السياسي لا بل بعض مناخات الانفتاح الديمقراطي.
والعنوان الأبرز هنا بطبيعة الحال هو تخفيف القبضة الأمنية وإصلاح منظومة الأمن العميق هيكليا دون حتى تعريف خطوات ومراحل تلك الهيكلية حتى اللحظة على الأقل. فالانتقال إلى أجواء الحرية أكثر ومعالجة وضع ملف الحريات العامة المتردي للبلاد والذي يشوه سمعتها بالخارج والداخل لا يزال هدفا بحد ذاته إذا كان المطلوب النفاذ من مرحلة صعبة اقتصاديا.
صحيح ارتكبت أخطاء فادحة وغير مسبوقة في الانتخابات النيابية الأخيرة. وصحيح تم إقصاء مكونات اجتماعية كاملة بعملية فيها قدر من المجازفة وغياب الرشد.
لكن كل المصادر العليمة تؤكد انها عملية هندست أو برمجت على أساس ما يسمى بكبسة الرئيس ترامب في الوقت الذي بات فيه واضحا أن المملكة عليها ان تغير وضعية تلك الكبسة وتطلق الضوء الذي يناسب إدارة الرئيس الجديد جو بايدن والذي خطب حتى الآن مرتين، كان واضحا لماكينة الرصد الأردنية الخبيرة انه تحدث فيهما عن ملف الحريات العامة خصوصا في الدول الصديقة لإدارته والحليفة.
ما الذي يعنيه ذلك عند ترجمته أردنيا؟
سؤال صعب في الواقع بدأت الإجابة عليه برسالة علنية تحاول شرح ما كان يحصل وعلى أي أساس تنامى نفوذ.
لكن هذا الشرح يبقى ناقصا بعيدا عن الإجراءات وقد يرتبط بظروف واعتبارات تعود في جذرها وعمقها إلى وصفة التحول الديمقراطي الشهير عام 1989 بتوقيع الملك الراحل الحسين بن طلال، حيث أزمة اقتصادية حادة آنذاك انتهت بمغادرة حكومة الرئيس زيد الرفاعي وإلغاء الأحكام العرفية واستئناف الانتخابات والحياة البرلمانية وتقديم تنازلات كبيرة سبقت في النتيجة توقيع اتفاقية وادي عربة بعد 5 سنوات.
هل يستعد الأردن لشيء مماثل في خريطة الإقليم بدأت خطوته الأولى بهيكلة المنظومة الأمنية بمعنى تحول ديمقراطي جديد بعد سلسلة مجازفات هندسية كانت كلفتها على الدولة أقوى في الانتخابات الأخيرة؟
سؤال أيضا بمنتهى الصعوبة لا يمكن الإجابة عليه قبل ترقب الإجراءات اللاحقة في عمان وحزمة التلميحات والإشارات التي تصدر من أو في واشنطن.
الأردني المواطن لا يملك بعد الايمان بدولته إلا الترقب والانتظار.
والأردني الاقتصادي أو المشارك بالدولة الاقتصادية لا يملك من جانبه إلا البقاء في المحاولة، فالتحول مجددا لتفكيك السيطرة الأمنية على المشهد الدستوري والسياسي قد يكون إرتجاليا وعشوائيا إذا لم يترسم في سياق وطني وشمولي وأفقي مرتبط بأجندة اقتصادية أعمق على حد تعبير المستشار الاقتصادي محمد الرواشدة.
قد يستفيد القطاع الخاص الأردني المترنح الآن بسبب فيروس كورونا من تموقع لعبة إصلاح وتحول جديدة، بدلالة ان رسالة الملك للجنرال حسني توسعت نصيا في الحديث عن الاستثمار ومراقبته ومتابعته وتراخيصه وعن هيئات دستورية تستطيع الآن متابعة ملفات الفساد بعيدا عن منظومة الأمن التي ينبغي أن تعود بدورها إلى سيناريو الالتزام بالاختصاص.
أصل القصة قد يكون ماليا واقتصاديا.
وأصلها قد يرتبط حقا بوصفة طبية سياسية قديمة في الأردن وعنوانها ضخ حقنة من الديمقراطية في المناخ العام كلما ضاقت سبل العيش وأصبح الحصول على رغيف الخبز أصعب، فالانكماش مقبل وقوي والجميع في القطاعين العام والخاص يتضجر الآن والانطباع قوي جدا من حكام واشنطن الجدد بأن المساعدات بعد الآن قد ترتبط بشرط الحريات.
والانطباع أقوى بأن المال النقدي ينكمش في العالم فدولة مثل ألمانيا تقدم للأردن 800 مليون دولار سنويا لديها محنتها المالية وقد تقلص مساعداتها مما يعني تلقائيا بان ما تقرره إدارة بايدن في المساعدات المالية ستقرر الدول الأوروبية المانحة مثله تماما على الأرجح.
عليه يصبح القول بأن أصل أزمة السيولة المالية وفي تصورات المال المساند قريبا والانكماش المتوقع، من العوامل الأساسية التي دفعت باتجاه حماية الوطن عموما برسالة ملكية مهمة تعيد إنتاج دور المنظومة الأمنية على أساس نوعية التحديات الآن وتصنيف الأولويات.