قبل بضعة أشهر تحصل الأردنيون على المرتبة الثانية بين الشعوب الأكثر تعاسة عربياً، وسبقه لبنان، وبعد صيف جيد نسبياً في لبنان الشقيق، وبعض التحسن قياساً بفترة صدور التقرير، فهل يمكن أن تكون معلومات محدثة تضع الأردن بوصفه أتعس شعب عربي؟ عملياً التقرير لا يعول عليه لأنه يتقصد أن يقيس السعادة، ويضع معايير لم تعد تشكل فارقاً موضوعياً بالنسبة للأردنيين، فمثلاً حين يكون سخاء الدولة، أو ما تقدمه من رفاه للمواطنين أحد المعايير، فالأردنيون اعتادوا على غياب هذه الأدوار للدولة، وبينما يدفع الطالب الجامعي رسوماً رمزية ليلتحق بالجامعة في مصر أو سوريا، فإن عليه أن يدفع أضعافاً في الأردن، ومع أجيال جديدة من الوزراء الذين يفتقدون للخلفية السياسية، أصبحت التصريحات الوزارية بعيدةً عن النصيحة السياسية التي قدمها المتنبي ذات يوم: فليسعد النطق إن لم يسعد الحال!
بعد فترة غير طويلة أظهر تقرير على المستوى العربي، تصدر الأردن لأكثر الشعوب العربية التي تفكر في الهجرة، والأردنيون من الشعوب التي حققت معدلات هجرة عالية، إلا أنها ليست هجرة نهائية أو متواصلة، ومع ذلك، فالحديث حول هذه المؤشرات بقي ينحصر في أوساط نخبوية محدودة، ولم يتصاعد ليشكل هاجساً بالنسبة للحكومة، أو لما يمكن وصفه بعقل الدولة الأردنية، وهو المصطلح الذي يسرف الزملاء في استخدامه من غير أن يقفوا على تحديد واضح لمعالمه، ربما لأن تحديداً لجسد الدولة الأردنية، يبقى غائباً في المقابل، وليس أكثر من الأردن إنتاجاً للمصطلحات أو استعارةً لها من غير أن يكون ذلك قائماً على أرضية حقيقية. عملياً، فإن التقريرين لا يعبران عن واقع حقيقي يعايشه الأردنيون، أو لنرتب العبارة بطريقة أفضل، فهما لا يعبران عن فهم في هذه النوعية من التقارير للواقع في الأردن، فالأردن هو البلد الذي يعيش على الحافة، وليس وارداً أن يستقر بصورة نهائية، أو أن يسقط بالكامل، والسقوط كما حدث في عدد من الدول العربية من شأنه أن يمنحها حالة من التهاون في معايير المقارنة، وما زال الأردن إلى اليوم، قياساً بغيره، يمثل مجتمعاً متماسكاً، أكثر مما يبدو للوهلة الأولى، وواعياً بأكثر مما تظهره القراءة المتعجلة لتفاعلاته، وواعداً بأكثر مما يوحي به الجرد المادي لإمكانياته.
يفتقد الأردنيون قنوات أفقية للتواصل في ظل وجود معادلة نيابية جهوية، تشكل عزلاً ممنهجاً، بين القواعد الشعبية لمصلحة فئات يمثلها النائب، ويعتقد أن دوره ينحصر في خدمتها
ما الذي يقلق الأردنيون ويدفعهم للشكوى؟ الأسباب تتوزع بين طارئة وأخرى متجذرة، فالأردنيون يعانون من الأعراض الانسحابية للإدمان على الدولة الراعية، التي اعتادت أن توظف دورها من أجل حيازة مكتسبات للأردنيين، تتمثل أساساً في التوظيف، وفي التوسع في الخدمات والبنية التحتية، لدرجة أنه يمكن في الأردن إلى اليوم، أن تسمع شكوى من بعض السكان الذين لا يتجاوزون العشرات في أفضل الأحوال من معاناتهم من وصول المياه أو الكهرباء، مع أن صيفاً كاملاً عبرته الأردن من غير انقطاع واحد للكهرباء، ومشكلات المياه لا يمكن مقارنتها، مع الفقر المائي القائم، بالوضع في دول عربية أخرى، وتبقى البطالة هي العامل الضاغط الجديد، الذي عند تفكيكه يتبين أن سببه معنوي أكثر منه واقعيا، فالعمل موجود، لكن الأردني يريد العمل الذي اعتاده، والذي يشكل ضماناً اجتماعياً ممتداً، وجزءاً من العقد الاجتماعي مع الدولة، أي وظيفة حكومية أو وظيفة في القطاع الخاص بنكهة حكومية. هذه جميعها أسباب طارئة، أما ما هو متجذر فيتمثل في وجود قناعة بأن الأردن كما تحمّل حصته من أعباء وقعت على الشرق الأوسط، فإن عليه أن يتحصل على عوائد وتعويضات من شأنها أن تعمل على استقراره، بوصفه ضمانة أخرى، لترويض (إسرائيل) حتى في مرحلة السلام، والحاجز أمام مطامعها غير المنتهية، وهذه مسألة كان يجب أن تؤول إلى النهاية، بعد مناقشة الجانب الاقتصادي في صفقة القرن سابقاً، فالرؤية الاقتصادية هزيلة ولا يوجد المن والسلوى على قائمتها. وفي قائمة المتجذر فشل مقيم في التواصل بين الأردنيين، ولذلك ظهرت في المرحلة الماضية مجموعة من المبادرات لتجمع فئات متعددة في العمل السياسي، من خلال لجنة ملكية لتحديث المنظومة السياسية، وأتبعتها ورشات اقتصادية أخرى تحصلت على الرعاية الملكية، وبذلك تتأسس قنوات التواصل الرأسية، ويفتقد الأردنيون قنوات أفقية للتواصل في ظل وجود معادلة نيابية جهوية، تشكل عزلاً ممنهجاً، بين القواعد الشعبية لمصلحة فئات يمثلها النائب، ويعتقد أن دوره ينحصر في خدمتها، والأمر نفسه، بالنسبة للإعلام الذي يستقصي تمثلات العلاقة الرأسية ويتناسى وجوده بين الناس وداخل قضاياهم. من أمثلة ذلك، والدولة الأردنية تخوض حرباً على المخدرات، فإن الإعلام لم يقدم شيئاً على أي قدر من الأهمية حول ضحايا هذه الآفة، ولم يتوقف عند قراءة أسباب شيوعها بين الشباب، حتى أنه في بعض الحالات يعيش حالة من الإنكار تجاهها، وحملات التوعية تبدو خجولة وخافتة، والأمر كذلك، فالجميع يتحدث عن الاحتكار، لكن يبقى المحتكرون بصورة فردية بمنأى عن النقد، والفساد يتحول إلى وحش متعدد الأطراف، ومن الصعب أن تقبض منه طرفاً، ولو حدث، فإن عوامل الفئة والجهة والتصنيف تسعى إلى تخليصه، وإلى تمييع الحديث والتقصي، فلا يصل أحد إلى تصور واقعي عن مشكلتي الفساد أو الاحتكار أو أي مشكلة أخرى.
الأردنيون، الذين يقبعون في وضعية مجحفة في التقارير المتخصصة، لا يمكنهم إلا أن يجدوا دلائل على عمق التوتر والقلق الذي ربما لا يقوم على حقائق، والحلول في إشكالية التواصل والمكاشفة بصورة واضحة تبقى محدودة، وإلى أن يتمكن الإعلام الأردني ومعه أدوات الدولة المختلفة من تحقيق أرضية للتواصل الأفقي، الذي يجعل الأردني يستشعر تفاصيل المشكلة الجمعية التي تضعه بين مواطنين مثله، ويفكر خارج فئته أو جهته، فإن حالة التوتر ستتغذى من الاضطراب والصراع على أولوية الحديث والمظلومية. وإذا كانت بعض الدول العربية تسعى إلى تعزيز السعادة من خلال وزارات متخصصة وإدماج السعادة والرضا في المؤسسات، فإن الأردن عليه أولاً أن يواجه غزو التعاسة الذي يتمدد لأسباب موضوعية وأخرى متوهمة لم تجد من يواجهها ويفككها.
كاتب أردني