عمان – «القدس العربي» : لا أحد يريد أن يسأل عن عملية تقييم فنية وتقنية ووطنية عميقة لسلسلة التحقيقات والمداهمات والاعتقالات التي طالت، قبل أشهر وأسابيع، سلسلة من الشركات وطبقة من رجال الأعمال في الأردن.
حتى الآن على جبهة وزير المالية في الحكومة الدكتور محمد العسعس، وفي جزئية المتابعات الضريبية، كانت المسألة تتعلق بتكريس ثقافة ضريبية يحتاجها الاقتصاد، كما سمعت «القدس العربي» مباشرة. لكن على جبهة الآثار والتداعيات والصدمات التي استوطنت في عقل أصحاب الأعمال وقطاعات بعض الاستثمارات، لا تزال الأسئلة حائرة ومعلقة، فكلفة الأسلوب الذي اتبعته حكومة الرئيس الدكتور عمر الرزاز في هذا السياق سابقاً كانت كبيرة وبلا مكاسب واضحة.
الخيار «الأمني» مهم لكنه لم يعد يكفي و»التمكين القانوني» قد يكون الهدف المقبل
ويمكن تلمس الأمر من خلال إصرار عدة شخصيات، من بينها الوزير السابق أمجد المجالي، على التذكير بأن الانتقائية في تحقيقات تحت عنوان ملفات فساد تلحق ضرراً وعلى أساس أن المطلوب كان ولا يزال وضع كل الأسس الوطنية لمتابعة ما حصل من فساد في الماضي تحت مظلة القانون ومنع تكرار ثقافة التجاوزات. وأعاد المجالي التذكير بتقديره مجدداً بخطاب مصور مثير.
لكن الرأي العام -وقبل عدة أشهر وقبل تكليف رئيس جديد للوزراء يبدو أكثر اهتماماً بالمكنة القانونية مع طاقمه من أسلافهما- سمع ضجيجاً كبيراً تحت عنوان تحقيقات بعطاءات في عهد وزير الأشغال الأسبق، وتحت عنوان مداهمات، دون أن يسمع الرأي العام بعد نتائج ما سمي بالحملة لاستعادة أموال الدولة.
قال الرزاز وقتها إنه يريد استعادة أموال الدولة والخزينة، ولم يفصح لا طاقمه ولا الطاقم الوزاري الذي تسلم زمام الأمور بعده حتى اللحظة وبصورة تفصيلية، عن ما استعيد حقاً من أموال. ولم تشهد الساحة مراجعات جذرية ورقمية تحاول المقاربة أو التقريب ما بين طبيعة المتابعات القانونية، سواء من أجهزة الرقابة المالية في الدولة أو من هيئات مكافحة الفساد، أو من بعض الأجهزة الفنية، وما بين نتائج سلسلة عميقة من التحقيقات أحيل بعضها إلى سلطة القضاء المستقل، ولا يعرف الرأي العام مصير بعضها الآخر.
بكل حال، تضرر كثيرون في قطاع الأعمال مما حصل، والمتابعات لقضايا الفساد في جانبها السياسي لا تزال -تجنباً لكلفة سلبية على الاستثمار والاقتصاد- تحتاج إلى مسطرة مهنية منصفة أكثر، برأي مستشار وخبير اقتصادي من وزن محمد الرواشدة، الذي يصر بدوره على تذكير الجميع بأن التوازن المطلوب له علاقة بالبقاء وطنياً في المجال الحيوي لتعزيز المؤسسات الاقتصادية والاستثمارية والمجال الحيوي لاستقطاب الاستثمار المحلي والخارجي. يحاجج كثيرون في الأثناء وخلف مطابخ القرار وحتى في مجلس الأعيان، بأن الخيار» الأمني» مهم وفعال وضروري في التخلص من التجاوزات وحماية المال العام، لكنه لا يكفي وحده عندما يتعلق الأمر بالبناء الهرمي لاستفادة الاقتصاد الوطني ولتعزيز المكاسب أو لتقديم مساهمة حقيقية وعميقة في الإصلاح الإداري ووقف الهدر.
داخل مطبخ الحكومة الحالية ورثت مشكلات وملفات متعددة قد يكون من بينها ملفات التحقيق التي لا تزال مفتوحة. الحاجة باتت ملحة لإعادة التقييم والمراجعة، خصوصاً في ظل الاعتماد في التحريك على التحقيقات ذات الطابع الأمني فقط، وفي ظل طول فترة التحقق والتحقيق، وقبل الإحالة للمحاكم، خصوصاً في شركات المساهمة العامة والخاصة في القطاع الخاص وبعض قطاعات «البزنس».
ثمة من يرى اليوم بأن موجة ما سمي في عهد الحكومة السابقة بـ»كسر ظهر الفساد» قد كسرت في بعض نتائجها أكتاف بعض رجال الأعمال والاستثمارات وبثت نمطاً من الخوف والرعب يخيف بعض رؤوس الأموال التي تتميز أصلاً ودوماً بالجبن الشديد بطبيعتها. وثمة من يرى في العمق ليس فقط بأن المقاربة ينبغي أن تتطور قانونياً وفي إطار الخبراء أكثر قليلاً من التعامل مع المسائل والملفات في مستواها الأمني فقط، لأن بقية المؤسسات القائمة القانونية والتنفيذية والرقابية والبيروقراطية ينبغي أن تقوم بواجبها بالمقابل وتتوقف عن إرهاق وإشغال الاعتبارات الأمنية والاعتماد عليها فقط.
تحتاج فعاليات الأذرع التي تحقق وتدقق باسم الدولة والحكومة إلى تأصيل وتمكين قانوني يؤسس للتعاون بين المؤسسات ويحاول التسريع في إجراءات التحقيق والتدقيق، ثم التقاضي والمحاكمة حتى تغلق الملفات بقرارات قضائية فاصلة. وحتى تستعيد بعض المؤسسات والشركات والأموال ما يمكنها أن تستعيده من نشاط ودور في النشاط الاقتصادي، فقد قدمت الدولة الأردنية ما يكفي من الأدلة الآن على جديتها والتزامها في محاربة الفساد عندما يكون موجوداً.
والخطوة التالية سياسية بامتياز، ومطلوبة من حكومة جديدة تحاول إعادة التوازن للمشهد العام. وعلى أساس بسيط يقول ضمنياً بأن المطلوب لم يكن إرعاب أو إرهاب قطاع الأعمال والشركات بمداهمات وملاحقات وتحقيقيات طويلة الأمد، بل كان المطلوب التأسيس لمساحة حراك اقتصادي تنموي واستثماري منهجية وبرامجية وأصولية ونظيفة، كما افترض العسعس.