عمان – «القدس العربي»: بعيداً عن الإطار القانوني وتفصيلات التحقيق نفسه، وعندما يتعلق الأمر بالبعد السياسي والاجتماعي لقضية فساد التبغ والسجائر في الأردن، تصبح الفرصة مواتية أكثر لرصد وملاحظة بعض التداعيات الحرجة إلى مساحات إضافية تثير الجدل والتساؤل.
اعتقلت السلطات الأردنية قبل نحو عشرة أيام ستة موظفين سابقين بينهم وزير سابق ومدير عام متقاعد للجمارك وأربعة من كبار الموظفين في الجمارك ومؤسسة المناطق الحرة.
وبعد هذا التوقيف على ذمة التحقيق من قبل نيابة محكمة أمن الدولة التي تدقق في القضية الشائكة والمعقدة على أساس أنها جريمة اقتصادية.. سارعت وزيرة الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة جمانة غنيمات، لإطلاق تصريح تقطف فيه حكومتها ثمرة أسبقية الفتح الجدي لملف فساد كبير عندما قالت بأن الحكومة التزمت بما تعهدت به في متابعة ملفات الفساد.
هنا تحديداً يبدو رئيس الوزراء الدكتور عمر الرزاز بحاجة إلى خطوة تصعيدية في متابعة ملفات الفساد تخدم رصيده الشعبوي وترسل إشارة واضحة لعدة أطراف بالتزامن مع سيناريوهات تقترحها بعض الاجتهادات خلف الكواليس، مرة بعنوان الخوف من قرار جزافي مفاجئ يتخذه الرزاز منفرداً بالانسحاب من المشهد أو الاستقالة، ومرة باسم السيناريو الذي لم يعد يقبل فكرة بقاء حكومة الرزاز على الأقل في وضعها الحالي لما بعد الدورة البرلمانية المقبلة. بكل حال، تلبية شغف الشارع برؤية رؤوس كبيرة خلف القضبان والتحقيق معها خطوة يمكن أن تضاف إلى رصيد الرزاز وتجربته إذا ما كان الرجل يرتاب من وجود مفاجآت تستهدف حكومته في عمق مشهد القرار. وهي بالمناسبة الرؤوس الكبيرة نفسها، أو بعضها على الأقل، التي تحدثت عنها الوزيرة غنيمات، ثم لمّح الرزاز لها لاحقاً عندما تحدث علناً عن وجود مرتش ما دام الراشي موجوداً.
وتطورت الأحداث عند توقيف الوزير السابق منير عويس، والمدير العام الأسبق للجمارك وضاح الحمود، وأربعة موظفين عملوا معهما، ولم تعرف بعد تركيبة التحقيقات المتعلقة بالموقوفين الستة، لكن حصل هذا التطور بعد نحو ستة أسابيع من تسليم تركيا لنجم هذا الملف رجل التبغ الغامض والأعمال عوني مطيع.
ثمة انطباع في الحلقات الضيقة ليس فقط على مستوى حكومة الأردن، بل أيضاً على مستوى بعض مفاصل القرار، بأن الوظيفة السياسية لتحقيقات ملف التبغ والسجائر أكبر بكثير من القضية نفسها وحيثياتها وحتى من رموزها، سواء المتورطين أو الذين سيتم إثبات تورطهم لاحقاً. وسمعت «القدس العربي» من يقول من مسؤولي المستوى العميق بأن تحقيقات فساد السجائر عبارة عن مفصل أساسي في هذه المرحلة، عابر للقضية نفسها سياسياً، مع الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تحديداً تضغط بشدة وتتابع التفاصيل وتتعامل مع ما يسمى بأزمة الفساد في الأردن منطلقة من الوظيفة السياسية لها.
ما أراد هذا المسؤول التأشير عليه هو أن الكثير من الأشياء والمعطيات ستتغير في ذلك الخطاب المتعلق بمواجهة حاسمة مع ملفات الفساد في الحالة الأردنية بالرغم من التهويل والمبالغات في الشارع. تلك بكل حال محطة حمالة أوجه وغامضة التداعيات.
لكن يبدو سياسياً أنها مفصلية في ترسيم وتحليل حتى بعض المساحات في العلاقات الدولية، الأمر الذي يجعل تحقيقات التبغ والسجائر أعمق وأبعد بكثير من وزنها الإجرائي والقانوني والمحلي باعتبارها رسالة جديدة ومحطة تبديل ضغطت أطراف نافذة خارج الأردن على حكومة الرزاز واستعان بها الأخير أيضاً لأغراض إظهار الحزم والصرامة والتكييش السياسي والشعبوي.
ويؤسس خبراء عميقون لمثل هذا السيناريو وسط الإصرار على أن وكالة تحقيقات الفيدرالية الأمريكية شاركت قبل بدء التحقيق أصلاً في المتابعة وجمع المعلومات مع الجانب الرسمي الأردني. ذلك الوضع المعقد نسبياً يعني أن هذه التحقيقات ستكمل طريقها، وأنها ما دامت قد دخلت في المربع السياسي قد تنطوي على المزيد من المفاجآت وقد تشكل فصلاً جديداً في طبيعة الاشتباك الرسمي الأردني مع ملفات فساد لم يعد من الممكن التعاطي معها وفقاً للآليات القديمة.
ومن هنا تحديداً يبني عضو البرلمان السابق والمتابع الاستثنائي للتفاصيل، الدكتور أحمد الشقران، تصوراته وهو يعلم متابعيه عن الوجبة المقبلة من الموقوفين على ذمة التحقيق في قضية التبغ والسجائر في الطريق، وستحصل قريباً، وقد تضم شريحة ممن أطلق عليهم «أصحاب الحصانة»، وهو تعبير يعرف الجميع أن المقصود به بعض البرلمانيين .
في الأثناء، وإلى أن تكتمل هذه الملابسات والظروف المتشابكة، قد يكون من الصعب جداً ضبط إيقاع هذه التحقيقات والحد من محاولات التأثير السياسي عليها، خصوصاً وأن جلب واعتقال من يمكن إطلاق وصف رأس كبير عليه يفتح المجال أمام شبهة تورط المزيد من الرؤوس ما دام التحقيق مفتوحاً والمعلومات ستتكاثر.
الأصعب في اللغة المحلية هو أن الاسترسال في التحقيق مع رموز إضافية أو رؤوس أكبر أو أصغر يعني حتمية المواجهة مع البعد الاجتماعي والعشائري، ووضع الجميع في البلاد أمام امتحان حقيقي باسم الجدية في طي صفحة الفساد… وتلك بكل حال قصة أخرى.