الأردن وعقدة «أصوات النشاز»

في حديث المصالح الأردنية المفصلية شجون وشؤون. يسأل أحد كبار المسؤولين: أيهما أخف وطأة على مصالح الأردن المستقبلية… يمين إسرائيلي يحسم المواجهة في غزة لصالحه ثم ينتقل لحسمها في الضفة الغربية حاملا معه خرائطه التي تعتبر المملكة جزءا من إسرائيل الكبرى أم مقاومة تصمد ومشروعها ينتهي بمرجعية فلسطينية جديدة، ودولة على أكتاف أغوار الأردن؟
يبدو سؤالا بسيطا وساذجا عمليا عندما يطرح خصوصا من قبل سياسي عريق وصاحب منصب ونفوذ، فالجواب لو طرح السؤال على طالب في الصف الأول الابتدائي معروف مسبقا.
لكن اللافت جدا للنظر أن بيننا في النخبة الأردنية اليوم وللأسف الشديد من يعتقدون أو لا زالوا يؤمنون بأن إسرائيل قوية وصلبة ومتفوقة ومجرمة يمكن التفاهم معها وأن دولة فلسطينية مستقلة تقودها مرجعية واضحة على أساس الصمود والمقاومة، قد تشكل خطرا على حسابات الأردنيين ومصالحهم.
لا أحد يستطيع إنكار وجود الشريحة المشار إليها والتي تؤمن بأن الابتعاد عن الولايات المتحدة الأمريكية في أي مفصل أساسي أشبه بابتعاد الرضيع عن صدر أمه، وأن إسرائيل بوضعها الحالي قدر، كما تؤمن بأن التفاهم ممكن على أساس المصالح مع يمين إسرائيلي متشدد، لكنه ليس متشددا إلى الدرجة التي يسعى فيها لابتلاع الأردن.
أصحاب اجتهادات يمكن التعثر بهم في عمان في هذا الاتجاه وبكل الأحوال نتحدث عن وجهات نظر ليس بالضرورة وصفها بأي اتهامات، لكنها مرتجفة بكل الأحوال والإشكال الأساسي في إعادة استقرار فهم وطني لملفي عملية السلام والشراكة مع الجار الإسرائيلي السيئ، هو أن تلك الشريحة من السياسيين ليس فقط موجودة في بعض مفاصل القرار لكنها تحاول الهبوط بالقرار والبوصلة وخطف المشهد لصالح وجهة نظرها.
الأهم أن أصحاب هذا الرأي المتعددين المتلونين لديهم ما يكفي من الانتهازية والبراغماتية التي تجتهد للبحث عن أدلة وبراهين على أن مخاطر اليمين الإسرائيلي مبالغ فيها أو أنها قابلة للإنكار، فيما تجتهد بالتوازي في تجاهل كل الأدلة والبراهين التي تقول اليوم بملء الفم بأن تمكن اليمين الإسرائيلي من ابتلاع قطاع غزة بالعدوان والإجرام ستكون محطته التالية تهجير أهل القطاع وتدمير فرصتهم في الحياة ثم تطبيق السيناريو نفسه على الضفة الغربية في حضن الأغوار الأردنية.

الاستدراك على مستوى المؤسسات الأردنية لا يمكن إنكاره وكيان إسرائيل عاد للتربع على العرش باعتباره العدو العقائدي لجميع الأردنيين، مع أن المشهد لا يخلو من اجتهاد هنا وشغب هناك

نحمد الله كأردنيين أن أصوات هؤلاء النشاز لا تؤثر كثيرا في القرار والتوجه اليوم وأن حالة وعي جديد تتشكل في الشارع الأردني وبعض قواه على الأقل وعلى أن بعض النخب المخضرمة وصاحبة الخبرة الطويلة هي التي تؤمن بأن اليمين الإسرائيلي إذا ما تمكن من الضفة الغربية والقدس سيتجاوز الوصاية الأردنية وسيضع أهل الضفة الغربية بين خيارين: الهجرة أو الموت.
الاستدراك على مستوى المؤسسات الأردنية لا يمكن إنكاره وكيان إسرائيل عاد للتربع على العرش باعتباره العدو العقائدي لجميع الأردنيين، مع أن المشهد لا يخلو من اجتهاد هنا وشغب هناك تحت ستار الرغبة في الحفاظ على أمن الدولة والنظام وتجنب المجازفة، فيما العناوين أكثر من واضحة ليس للصراع فقط، ولكن للذهنية الاستئصالية في خطط اليمين الإسرائيلي.
لا نحبذ هنا لغة المندسين والاتهامات وما نؤشر عليه طاقم يوصف في صالونات عمان بـ«الخواجات» ويؤمن بقدرية «أي ترتيب أمريكي» وبأن صراع البقاء لا يطال الأردن مادامت القواعد العسكرية الأمريكية موجودة، فيما ثبت بالوجه القاطع أن الأمريكي يمكنه أن يطعن بالظهر وفي أي لحظة خصوصا عند حسابات الانتخابات وفي إطار المعركة الوجودية التي يخوضها مع الغربي دفاعا عن كيان الاحتلال المدلل بعد المعاني والدلالات القيمية السامية التي كشفتها أو أظهرتها أو حتى كرستها معركة طوفان الأقصى المجيدة.
يحتاج الأردن إلى حالة رسمية تعزل فيها مثل تلك الأصوات المرتجفة لأن المواجهة عميقة جدا، والاشتباك معقد ولا مجال للاجتهاد في مواجهة مخططات التدمير والتهجير التي يهندسها الإسرائيلي اليوم في الجغرافيا المحيطة للمملكة وبغطاء أمريكي.
قد يقول قائل: حسنا… ما الذي ينبغي فعله؟
سؤال يتعثر به كل من يحذر اليوم من القبول تحت أي ظرف بالهندسة الأمريكية الإسرائيلية الجديدة للمنطقة لكن الإجابة عليه ممكنة، عندما يدرك الفرقاء الأردنيون معا بأن مؤسساتهم قرأت بعمق أحداث السابع من أكتوبر أولا ثم قرأت بعمق أكبر نتائج وتداعيات هذه الأحداث.
في القراءة العميقة يشعر المراقب بأهمية وجود قراء استثنائيين بعيدا عن قافلة «الخواجات» في مشهد صناعة القرار. والمراقب ذاته يشعر بالخيبة ذاتها لأن أزمة الأدوات متصلة رغم فداحة الخسائر.
وبالتالي يمكن القول بأن إدراك الواقع كما هو والإيمان بخطورة اليمين الإسرائيلي على مصالح ومستقبل الأردنيين قيادة وشعبا قد تكون المحطة الأولى في الإجابة على السؤال.
ثمة محطة ثانية يمكن أن نبدأ بها وتمثل بكل بساطة القفز بمن يجيدون قراءة التحولات إلى واجهة القرار… نعم آن أوان التخلص بتوع الخواجا.

إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية