«الأرض الموبوءة» مجموعة الشاعر المغربي مخلص الصغير: تمازجٌ تجريبي في محاولات تجديد الشعر

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

يدركُ الشعراءُ قبل القرّاء وناشري الشعر الذين يقفون على صراط المغامرة بنشره، مدى ما يعاني الشعرُ من مشاعرِ إحباط الصدود عن قراءته، ولا يختلفُ الثلاثةُ تقريباً حول الأسباب الرئيسية التي يأتي في مقدمتها انبساطُ وسائل التواصل الاجتماعي، وتفتيتُها صورةَ الشاعرِ النّجم إلى نجومٍ تدور حول كل منها مجموعاتُ قُرّاء؛ ولا يبتعدُ عن تلك الأسباب عجزُ الشعراء عن ابتكار الجاذب الذي يعيد للشعر جماهيريتَه التي عاشها في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، قبل الانحدار.
في معالجة الصدود، تتشابك الرؤى إلى حدّ الغموض، وتتداخل الطّرق إلى درجة السرابيّةِ، ويتنامى الإحباط إلى كوابيس التكبيل، في ظلّ الدمار الذي تعاني منه الأرض على أيدي تجار الحروب لامتلاك مقدّراتها، وخواءِ مشاعرهم من أيّ حياءٍ على ما تقطر أيديهم من دماء، يمسحونَها علانيةً بثياب ضحاياهم من كائناتٍ وأطفالٍ وشيوخٍ ونساء.
ولكنْ، لتجْلِية الرؤية أكثر، وإنصافِ الحياة التي لا تستطيع إلا أن تنبضَ قسراً من قلب الموت، حيث لا يستطيع هو الآخر أن يكون موتاً بدونها؛ في كل هذا التشابك، لا تختفي محاولات وإنجازات الشعراء المعاصرين في تجديد الشعر، ومنحه أسلحةَ الجمال التي ينفذ منها إلى قلوب القراء. وينجح بطبيعة الحال منها القليل الذي يلتقط اللحظة البارقة، فيُجمّع ما امتلك من قدرات التجديد لصبّها في النهر الذي يجري بسرعة الفيضان، من أجل إبطاء جريانه، وإعادة السباحة فيه، والاحتفاءِ بالرقص الشعريّ على شاطئه. بينما تفشل محاولاتٌ يُحسب لها النجاح في أنها حاولتْ، حيثُ لا فشلَ أبداً وفق مفهوم ما تضيفُ الضرباتُ التي لا تميت من قوةٍ لمتلقّيها، وما يضيءُ الإخفاقُ من طرقٍ أخرى لم تطرقْها الأقدام.
مجموعة الشاعر المغربي مخلص الصغير، التي جاءت في خضم إدراك جَزْر الشعر تحت عنوان «الأرض الموبوءة»، تأتي كما يبدو ضِمْن محاولات التجديد التي طُرِقتْ من قبلُ وما زالت، على صعيد موسيقى الشعر، من قبل شعراء قصيدة النثر الموهوبين بقدرة التفعيل. وبالأخصّ من لمسوا معضلةَ إشاعةِ الكثير من شعراء هذه القصيدةِ إحساسَ القارئ بتشابه ما يُكتَب، كما لو كان شعراً مترجماً، وإعراضه بالتالي عما يتشابه؛ فلجأوا للسير في طريق تطوير موسيقى القصيدة، مغامرين بإمكانيات النجاح والفشل، حيث تكمنُ صعوبة الحركة في بحيرة استنقاع الشعر.
وفي هذا لا بدّ من الإشارة، كي لا يُظلم الشعراء بتهمتها، إلى القصديّة وما تُولّد من إنشاءٍ متنكّر بثياب الشعر، وإلى القولِ مسبقاً إن القصيدة غالباً ما تَكتُبُ وتوجِّهُ نفسَها لدى المجدّدين الحقيقيين، إذْ تُشابِك الحياةُ في دواخل من تختارهم حاجاتِها إلى التجدّد، وتصنَعُ منهم بؤرَ تلاقحٍ إبداعي لتكوينات الجمال، وتُنضِجَ فيهم تمايز الخيالِ، ليخرَجوا بوردة القصيدة، دون شرط إدراك ما يقومون به.

تمازج واقعيّ تاريخيٌّ أسطوري:
في بحيرةِ الشعر الراكدة، يقدِّم الصغير تجربته في محاولة هزّ الركود بالتجديد، عبر معالجة موسيقى القصيدة، من خلال التقاط اللحظة التي تمرّ بها الأرض، كمحورٍ للمجموعة، تحت تهديد وباء فيروس كوفيد الذي اجتاحها، والتعريج على دور أهل الأرض في تهيئة بيئة هذا الاجتياح بتخريب البيئة، وإشعال الحروب.
ويختار الصغير، في هذا الالتقاط المماثلةَ التاريخية مع قصيدة ت. س. إليوت، الشهيرة «الأرض الخراب»، التي عبّرت عما يمرّ به العالم بعد الحرب العالمية الأولى، مقتفياً أثر هذه القصيدة في الذكرى المئوية لميلادها عام 1922، وناسجاً قصيدته «الأرض الموبوءة» للتعبير عن تجربة العالم الحالية في ظل الوباء، مع وضعِها عنواناً للمجموعة.
في أرضه الموبوءة، يوردُ الصغير عشرينَ قصيدةً تغلب عليها التفعيلة، وتتناول ثلاثٌ منها «الأرضَ» بصورة مباشرةٍ هي:
ـــ قصيدة: «لا شيء في الأرض إن غابت الزهور»، التي يعالج فيها طبيعة وحكمة الأرض، التي تدور، وتطحن البشر، بزلازلها وبراكينها وطوفان مياهها، والحروب التي يقتل فيها أهلُها أهلَها.
ـــ قصيدة «الأرض الموبوءة»، التي يعرض فيها بالتداخل مع التاريخ والأسطورة والثقافة، واقعَ الأرض تحت تهديد وباء كوفيد، ويسترجع بمماثلتها مع «الأرض الخراب»، تاريخَ الطاعون الأسود، وفق تناول ابن الوردي له، ودخول أوديب إلى طيبة الملعونة. كما يسترجع هِرَقْلَ وإنقاذه التفّاحات الثلاث، استنجاداً في: «أينك يا هرَقلُ؟/ مَنْ ينقذ التفّاحات الثلاث المتبقِّياتِ/ من رمادِ هسبريس/ مَنْ ينقذُ الأرضَ من أهل الأرض؟». ويسترجعُ أطلسَ وحَمْله الثقيلَ للأرض، ترحُّماً: «من يخفِّفْ عن أطلسَ/ هذا الحِمل الثقيلَ/ قبل أن يُلقي بهذه الأرض الموبوءة/ ويطوّحَ بها في اليمّ».
ـــ «قصيدةُ الغضب»، المعبّرةُ عن غضب الأرض على أبنائها، إذْ: «ها هي الأرض/ تصرخ في وجهنا…/ سئِمتْ حمْلَنا/ واعتراها التَّعبْ./ لم تعدْ تتنفس غيرَ الوباءِ/ وغيرَ الدمارِ/ وغير اللّهبْ».
وتُكمِلُ وتَتَداخل بترتيب هذه القصائد، كأمثلةٍ:
ـــ قصائدُ التساؤل الإنساني المتعاطف، عن مصيرِ البشرية، مثل قصيدة: «إلى أين؟»: «فالسّماءُ مُلبّدةٌ بالحروبِ/ وأحلامُنا/ فوقَنا/ تحترقْ… والصواريخُ تقصفُ أدعيةً/ أرسلتْها فتاةٌ/ إلى مَنْ تثِقْ/ ربَّنا قلْ لها ما العملْ/ قلْ لها:/ أنتَ أيضاً بريءٌ/ ولا تتَّفقْ.». وقصيدة «رَيان»، الطفل المغربي الذي سقط في بئرٍ وشهد العالم موتَه البطيءَ لثلاثة أيام دون أن يستطيعَ إنقاذه، والبنت حياة بلقاسم التي حاولتْ الهجرة في قاربٍ مطاطيٍّ وأطلقَ عليها حرس الشواطئ النارَ قربَ سبتة، في القصيدة الساخرة: «قتلناكِ خوفاً عليك من الغرق».
ـــ قصائدُ المكان الواقعيّ، التاريخي، الحلمي: التي يُشغل الصغيرُ لها حيِّزاً كبيراً في المجموعة، ويتناول فيها: مدينته تطوان، كمكان للحاضر، في القصيدةِ المشكّلة من مقاطعَ تتكوّن كقصائدِ لقطةٍ قصيرة، بعدد أبوابها الثمانية: «باب العُقْلة»، حول فتاتين يهوديةٌ ومسلمةٌ تفتكان بقلب الشاعر. «باب الرواح»، مع الريح. «باب التوت»، بأصوات الباعة. «باب النوادر»، حيث البدويّات المُشرقات. «باب الرموز»، حيث رياض العشّاق ورياض المشرّدين واللصوص في الماضي والحاضر. «باب الصَّعيدة»، حيث «يُطلُّ الماءُ/ يُرخي جدائلَه على جسد الزِّلِّيج/ في سرير النافورة.». «الباب السفليُّ»، حيث: «النجوم تستيقظ ليلاً/ لرؤية الهلال/ وتنام في وضح النهار.». و«باب المقابر»، المعبِّر عن تعلّق التطوانيين بمدينتهم، حيث: «نحن في تطوانَ/ لا نُغادر المدينة/ إلا حين نموت/ أبداً لا نغادر/ إلا من باب المقابر».
ويتناول في قصائد المكان، كتاريخٍ وحلمٍ وفردوسٍ مفقودٍ كامنٍ في الروح، الأندلسَ وواديه الكبير، ومدنَه التي تأتي في مقدمتها قرطبة، في قصيدةِ الطّريق إليها، مستلهماً ومتداخلاً بابن حزمٍ كدليل له في اقتفاء أثرِ مذهبه في الهوى، وابنِ رشدٍ كطريق إلى الحرية، وإلى ذات الشاعر، وإلى قرطبة؛ كذكْرٍ دون غوصٍ في مجازات هذا التداخل.
ـــ قصائد الذات: التي يستكْنه الصغيرُ فيها ذكرياتِه، مثل قصيدةِ «دفتر الذكريات»، التي يُدخِل فيها فلسطينَ، بنسيج القصيدة، حيث: «رسمتُ طيوراً/ فطارتْ بعيداً/ تُلحِّن في نايِها أغنياتي/… ولوّنتُ في صفحةٍ/ رايةً لفلسطينَ/ رفرافةً في وجوه الطغاةِ.». مثلما يُدْخِل غيرةَ الأمّهات من عشيقات أبنائهنّ: «وأخفيتُ دفترَ حلْمي/ عن الأمِّ/ كي لا تغارَ/ من العاشقاتِ».
كما يستكنِهُ فيها شعرَه الذي يأتي في قصيدة «ما يقوله الكمان» متداخلاً بالحبّ والتضحية الموحيةِ بالمسيح: «واسكَر بكأسِ النون/ ولا تنسَ في العشاء الأخير/ بأن تغمس الخبزَ في القصيدة/ فالنبيذ مِدادُ الشعراء/ وهذا الحبرُ دمي/ على الورق».
ويستكنه فيها كذلك رغائبه، في الحبّ، مع الإيروتيكية الخفيفة، كما في قصيدة «لسان الوردة»، التي يتجه فيها إلى حكاية الخيال، عن العاشقة ووردتِها، والفراشةِ والأزهار، والأعشاب، وأساطير ألوانِ الفحولة في العجول والأبقار الدينية، والشيطانِ الذي كان يزور امرأةً، والطفل الذي يشهدُ تفتَّح ورود الإخصاب، حيث: «وطفلاً/ أتذكَّر في قريتنا/ نساءً ترشُّ ماءَ الورد/ في حِجرِ عروسٍ/ بعد انقضاء ليلتِها الأولى/ حتَّى كأنّ ما في أسفل الحِجرِ/ وردةٌ تفوحُ بماء الورد عطراً».
وربّما يمكنُ للقارئ ربطَ قصائدِ الذات هذه بالقصيدة الأولى في المجموعة: «المغربي»، التي تتداخل فيها الذات الفردية بالجمعيةِ لتصوير مغربٍ موحَّد بتاريخه وقوميّاتِه وطوائفِه ومذاهبه؛ حيث يستهلّ الصغير قصيدتَه، بمكان ولادته التاريخي: «تحديداً هنا في تطوان/ حيث يسرع الوادي/ إلى البحر كلَّ صباحٍ/ قبل أن يلتقي الجبلانْ». ويَجْمَع بعد ذلك الثنائيات ليزيلها بجمع المغربي: المتوسطيُّ، البربريُّ والنشيدُ الموريُّ المحارب في صفوف إيدمون ضد الاحتلال الروماني، الجبليُّ، الأمازيغيُّ، الوعي والوعيُ الشقيُّ، الأرضُ والسماءُ، الكلماتُ والأشياءُ، الصحراويّ، الشماليّ الجنوبيّ، الشرقيّ والغربيّ، الأندلسيّ، الفلسفيّ الرّشديّ، الظاهريُّ والباطنيّ، العاشق الشبقيّ والصوفيّ الوَليّ، الكتابُ المفتونُ والشاعرُ المجنون، ما بين الحروف، الفواصل والنقط، المعنى الخفيُّ، التأويلُ بالإشارات، التفسيرُ بالكرامات. وكذلك الغموضُ الجلِيُّ، النثرُ الشعريّ والشعرُ النثريُّ، الورقيُّ والرقميُّ، التجريبيّ والتجريديّ، «وأنا لستُ أنا/ أنا غيري/ ولستُ سوى شِعْري، وشِعْري نثري/ أنا الكاتبُ والمكتوبُ… والكتابيّ.» الفارسُ الوهميُّ الحقيقيُّ عند سرفانتس، وعُطَيْل القويُّ الوفيُّ المُهابُ عند شكسبير، الأطلسيُّ: «أحملُ أوجاعَ الأرض على كتفي…/ ودمي من ترابٍ/ أقدُّ منه الزِلِّيجَ والفسيفساءَ/ ولوحةً منحوتةً من الخزفْ/ أنا الرحّالة الهائمُ في الجغرافيا/ أُدوّنُ تاريخي على صفحات الأرض/ وأنقشُ ذاكرتي في تُحَفِي…/ أنا المغربيُّ».
تمازجٌ إيقاعي على الصراط:
قبل الدخول في محاولات تجديده على صعيد موسيقى القصيدة، كشاعرِ تفعيلةٍ في الأساس كما يبدو، يمكن ملاحظةُ أن الصغير في هذه المجموعة لا يُعنى كثيراً بتركيب الجملة الشعرية وفق تشابكات جمل ما بعد الحداثة، وما أتاحته الكتابة الآلية السوريالية لشعرائها من التوغُّل في أعماق النفس وقلب المفاهيم والإدهاش، ويبقى مفضِّلاً البعدَ الواحدَ في الجملة، وسلامةَ التواصل البسيط مع عموم القراء، لكنّه يلجأ إلى التنويع في الإيقاع بـ:
ـــ قصائدَ تعتمدُ النثرَ من غير تفعيل، وتجري بسلاسة الإيقاع، مثل قصيدتيْ «المغربيّ»، و«لسانُ الوردة»، وقصائدَ نثرٍ تجري من دون إخلالٍ بتواتر الجمل الشعرية، لكنّ تواترَ القوافي الزائدِ فيها يوحي للقارئ بقسرِ القافية لاتجاهات المعاني، مثل قصيدة «لا شيءَ في الأرض إن غابت الزهور»، حيث: «هكذا هي الأرض تدور/ لا تتوقفُ لا/ تتخلَّف لا/ تتأسفُ…/ وتغيبُ تغيبْ/ إن الغيابَ لا/ يعوِّضه الحضورُ».
ـــ قصائد تعتمد التفعيلة الواحدة على مدى القصيدة، وتجري بسلاسةٍ، إلى جانب قصائد تفعيلة يطغى عليها قيد القافية، وتضطرُ إلى الاتكاء على حرف «قد» التحقيق الذي يوحي للقارئ بوجود مطبات في الوزن؛ كما يحدث في قصيدة «ريان»، حيث: «فالعالم الآن/ في رعبٍ/ وفي قلقٍ/ والكون/ بالدمع والأحزان/ قدْ شرقا/… لعله الشعر/ ما كتبتُه ولعاً/ لعلّه الجمر/ ما قد أحرق الورقا».
ـــ قصائد تمزج بين التفعيلة والنثر، وتجري بسلاسةٍ عندما يكون المقطع مستقلاً في التفعيلة أو النثر، كما في قصيدة «ما يقوله الكمان»، لكنّها توحي للقارئ بالارتباك وكسر الوزن، عند مزج التفعيلة في المقطع الواحد، سواء بالنثر أو بتفعيلة مغايرة. مثلما يحدث في قصيدة «ربيع مناضل»، حيث: «ومضى على خُطُواتِهِ/ شجر الصنوبر والأراكْ/ وهناك صاح به الزيتونُ:/ إني أراكْ/ فمن أكون إذن/ لكي لا أكون إذن،/ وهناكْ/ قال السنديانْ:/ وأنا أيضاً أستطيعْ/ فمضى الجميع إلى الربيعْ/ والريح خضراءْ».

مخلص الصغير: «الأرض الموبوءة»
المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
بيروت وعمّان 2024
160 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية