يبدو أن القضية السورية بلغت من التعقيد والتأزم مرحلة لا يمكن بموجبها الاختصار في تحليل الأحداث على أنها صراع بين المحور الشرقي المتمثل في روسيا والصين وإيران من جهة، والمحور الأطلسي المتمثل في الولايات المتحدة والغرب والرجعيات العربية والتركية من جهة ثانية. كما لا يمكن الاقتصار في تصوير المشهد على أنه مؤامرة لتفتيت المنطقة وإنشاء مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي نظّر له برنار لويس. كما لا يمكن أيضا تحليل المشهد انطلاقا من قوالب جاهزة ونمطية مُسقطة. فروسيا والصين والولايات المتحدة تجمع بينها مصالح إستراتيجية واقتصادية متشابكة في التجارة والاستثمار والطاقة والأمن العالمي، وبالتالي فتصوير المشهد على أنه مخطط أمريكي لافتكاك سورية من روسيا والصين وإيران، يعتبر تسطيحا وتناولا ضيقا للمسألة. كما أن الاقتصار على اعتبار ما يجري في سورية مؤامرة أمريكية ـ صهيونية ضد نظام الأسد يدخل في باب الشعبوية وضيق النظر. أما نظرية مؤامرة تقسيم المنطقة فهي نظرية هلامية رغم وجودها في الأرشيف والمخزون التنظيري لمكتبة المحافظين الجدد، الذين عقدوا حلفا إيديولوجيا مع اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، فالتقسيم قد يعقّد الخارطة الأمنية في الشرق الأوسط، وقد يفرز كيانات تقودها تنظيمـــــات جهـــادية متطرفة تضع في سلّم أولوياتـــها ضـــــرب إسرائـــيل مهما كان الثمن، خاصـــة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن التقسيم في ســـورية سيؤدي إلى انتقال العدوى إلى باقي الدول المـــجاورة وبالتالي ضرب المصالح الإستراتيجــــية للعـــالم كلّه شرقا وغربا، إضافة إلى تعقيد الخارطة الديبلـــــوماسية في منطقة إستراتيجية غنـــية بمصادر الطاقة وراسية على فوهات من القــــنابل الايديولوجية والعرقية والمذهبية، التي قد تنفجر في أي لحظة. ما ذكرناه سابقا لا يمنع الإقرار بأن كل طرف يسعى للخروج بأكبر قدر من المكاسب المتاحة وبأقل قدر من الخسائر الممكنة. من جهة أخرى يسعى الكيان الصهيوني لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الإستراتيجية التي تضمن أمنه وتعزز تفوّقه الإقليمي، فما يجري من استنزاف لسورية كجيش ودولة وبُنى تحتية يعتبر في حد ذاته مكسبا لإسرائيل وللدوائر الاقتصادية الغربية التي سيكون لها دور في إعادة إعمار سورية وإغراقها في المكبلات المالية والاقتصادية عاجلا أم آجلا. لكن من جهة ثانية تمثل الجماعات الجهادية كابوسا مرعبا لإسرائيل ولكل الدول المعنية استراتيجيا بمنطقة الشرق الأوسط، خاصة لو أخذنا بعين الاعتبار الأسلحة الكيماوية الخطيرة التي يمتلكها النظام السوري. الولايات المتحدة التي تمتلك سياسة خارجية من أكثر السياسات انضباطا وحنكة دخلت في مستنقع تناقض الخطابات، فبعد أن أقرت بانتهاء شرعية نظام الأسد وبعد أن دعته للتنحي، تراجعت عن موقفها، خاصة بعد تغوّل الجماعات الجهادية التي سيطرت على عديد الأقاليم السورية. فالولايات المتحدة اكتوت بنار الجهاديين في أحداث 11 سبتمبر 2001 وفي أفغانستان والعراق، مما جعلها تدخل في توافق مع روسيا بتفضيل حل التفاوض مع النظام. فبعد ذلك أضحت الولايات المتحدة تنتهج تكتيكا يقوم على تحقيق عدة أهداف، من جهة أولى ضمان أمن إسرائيل، من جهة ثانية الحفاظ على الأمن والمصالح الإستراتيجية في المنطقة، من جهة ثالثة احتواء الجماعات الجهادية عبر التدخل بالوكالة بواسطة تنظيمات عسكرية يقع تدريبها حاليا في الأردن، ومن جهة رابعة اجتناب الدخول في تدافع عنيف وعقيم مع الأصدقاء ـ الأعداء من روسيا والصين، لما لذلك من تبعات قد تكون موجعة للولايات المتحدة التي تعيش أزمة اجتماعية واقتصادية داخلية. بلدان الخليج سعت لعسكرة الثورة السورية من أجل صد المد الثوري ومنعه من اختراق الأنظمة الملكية القائمة، ومن أجل تقويض المد الشيعي ـ الفارسي الذي يهدد منطقة الخليج شرقا انطلاقا من البحرين، وشمالا انطلاقا من العراق وسورية، فكان الالتجاء إلى الذخائر الايديولوجية باللعب على التناقضات العقائدية ـ المذهبية ـ الطائفية أسهل الطرق لمواجهة الأزمة التي تهدد الأنظمة الملكية الخليجية، وبالتالي تهدد المصالح الاقتصادية والإستراتيجية المعقدة والثقيلة للولايات المتحدة ومشتقاتها في منطقة إستراتيجية غنية بمصادر الطاقة. تركيا التي انتهجت في السنوات الأخيرة سياسة تقوم على نظرية ‘الصفر أزمة’ مع جيرانها الإقليميين وجدت نفسها مضطرة لمسايرة عمقها الناتوي وعلاقاتها المتينة مع الولايات المتحدة ومنظومة الإسلام السني الأطلسي في منطقة الخليج، فسايرت الأنظمة الخليجية، ولم تكن ممانعة في عسكرة الثورة السورية، رغم التبعات الأمنية والاقتصادية والإستراتيجية السلبية لذلك، إلا أنها انتهجت الخيار الأقل سلبيّة وقوّضت بذلك سياسة ‘الصفر أزمة’. إيران متغلغلة بطبعها في سورية لاعتبارات تاريخية ومذهبية وسياسية، إلا أن موقفها من القضية لا يسبح بعيدا عن الموقف الروسي من خلال تبني خيار الحوار مع النظام، ويُعتبر التدخل العسكري المباشر لإيران في الشأن السوري أمرا أكثر من مستبعد لأن ذلك سيكون مغامرة وانتحارا. من جهة أخرى تشهد الساحة الأردنية نشاطا استخباراتيا وعسكريا تقوده الولايات المتحدة، من خلال تدريب عناصر من سوريين وغير سوريين بإشراف منظومة استخبارات أمريكية وعربية قصد تسريبهم للأراضي السورية في الوقت المناسب، من أجل التصدي لبقايا نظام الأسد أو لحزب الله في صورة حدوث تصدع عميق في النظام السوري، أو لمواجهة التنظيمات الجهادية ومنع حصولها على الأسلحة الكيماوية التي قد تهدد بها إسرائيل. تبقى القضية السورية متشعبة ومعقّدة بحيث تعجز النظريات الساذجة عن تحليلها وتوقع سيرورتها. فالأحداث تتشابك، والمصالح تلتقي تارة وتتناقض تارة أخرى بــــين أشد الحلفاء وفاء، وستكون التناقضات المذهبية والطائفية والعرقية والايديولوجية هي الطاغيـــة والرائدة على مسرح الأحداث في جميع السيناريوهات المنتظرة، كما أن لغة التفوق العسكري لن يكون لها معنى إذا تطورت الأحداث نحو الاضطرابات العسكرية والأمنية، لأن النار ستحرق الجميع وستمتد على نطاق يصعب توقع امتداده، وستكون التبعات السلبية عسكرية وأمنية واقتصادية. يوسف بلحاج رحومة