الأسباب الثلاثة المؤدية للموت!

لا يبدو المستقبل للسينما وللأدب مكاناً صالحاً للحياة بشرطها الإنساني. معظم المبدعين الذين استحضروا المستقبل بالكتابة عنه، يتفقون تقريباً على هذا؛ ثمة رؤيا تشاؤمية للبشر والطبيعة والحياة والأمكنة، وكلها تتسم بالضيق كأماكن، وشحّ الموارد ككوكب أمٍّ.
ولعل السؤال الذي لا نستطيع إلا أن نطرحه: لماذا يتفق كل هؤلاء في أمر عظيم كهذا يمسّ المصير البشري؟ وهل في اتفاقهم ما يشير إلى أن المستقبل ليس مفتوحاً على شيء مثلما هو مفتوح على النهايات القاسية؟ حتى حين ينجو البعض، نكتشف أن نجاتهم كانت بسبب وصولهم إلى أمكنة أضيق، وعزلة أشدّ.
لكن كل هؤلاء الذين يتأملون المستقبل وأيديهم على قلوبهم وأرواحهم وعقولهم، ينطلقون، دون استثناء، ربما، من هذه اللحظة التي عاشوها أو يعيشونها على سطح هذا الكوكب، وعلى ما في هذه اللحظة من قتام يبنون. أما ما يخيف حقاً فهو أن الكتّاب الذين سبقوهم بعشرات السنوات وكتبوا عن حياتنا اليوم، أو مستقبلنا القريب، لم يكونوا على خطأ! إلا في الحالات التي كان فيها تشاؤمهم أقل كابوسية بكثير مما وصلنا إليه!
شهد العام الماضي ظهور ثلاثة أفلام تتكامل عناوينها ومعانيها بطريقة غريبة: «مكان هادئ»، و«لا تتنفّس»، و«صندوق الطيور»؛ وهي أفلام لا تتكئ على المستقبل، بل تبدو طريقاً إليه، طريقاً يصرّ العالم على ألا يراه، وهو يمارس فعلاً كل ما يؤدي لهلاكه.
.. من الغريب أن يكون إصدار أي صوت في فيلم «مكان هادئ» من قبل الكائن الإنساني أو سواه سبباً في موته، لأن هناك كائنات لا تصطاد إلا ذلك الذي يتكلم أو يصدر ضجة. ولذا يكون على العائلة التي اتخذت بيتاً بعيداً ملجأ لها، أن تصمت، مكتفية بقليل من الإشارات للتفاهم. ويبدو الاستماع للموسيقى، وليست هذه مصادفة، مصدراً للهلاك أيضاً، مع أنها الأجمل والأرق بين الفنون. ولهذا لا يجد الرجل وزوجته طريقة للاستماع إليها إلا من خلال سماعات الأذن الداخلية، وسط بيئة مترصّدة فتاكة يمكن أن تنقضّ عليك إذا قمت بممارسة أبسط الأشياء وأروعها. هنا الخوف في كل مكان، ولا تنجو سوى التماثيل! وتلك العائلة التي أدركت معضلة وجودها وعزلتها وهي تتخلّى عن اللغة، التي تعد المنجز البشري الأرقى، من أجل ضرورات الحياة في حدودها الدنيا.
فيلم «لا تتنفس» مقروء من عنوانه، مثل كل الرسائل التي تحدّث عنها أجدادنا، فصاحب البيت الضرير الذي يتمتع بقدرات قتالية مشهودة، اتكاء على ماضيه العسكري وجبروته، يفقد بصره، لكنه يستطيع تطوير استخدامات حواسه الأخرى، بحيث لا يبدو البصر أمراً مهماً، فهو يعرف ما يدور، ويراه، لمجرد أن يتنفس أولئك الصيادون اللصوص الذين ابتلاهم الحظ بأن يتحولوا إلى طرائد سهلة داخل منزله الذي أرادوا سرقته.
لا يذهب هذا الفيلم نحو أفق كوني مثل ذلك الذي في الفيلم الأول، ولكننا لا نستطيع أن نجرده من ظلال معانيه. فالضرير عسكري، ولديه قوة، وإذا تنفّستَ سيسمعك ويقتلك. ولعل كل القوى الكبرى اليوم هي كذلك، فهي ذات ماض عنيف، وتمارس عنفها بعمى مطلق ضد كل من يتنفس، وهذا يشمل قوى عظمى، ويشمل ملحقات هذه القوى في عواصمنا العربية وخارجها.
يأتي فيلم «صندوق الطيور» ليُكمل دائرة المحظورات المميتة، أو أسباب الموت الثلاثة التي لا يمكن التملص منها. فهنا، في هذا الفيلم معادلة: إن رأيت مُتَّ. ولذا على البشر، لكي ينجوا أن يعصبوا أعينهم بحيث لا يرون أي شيء. وهذه معضلة أخرى، لا لمستقبل يلتهم فيه الأحباء أحباءهم، بل أقرب أحبائهم، بل لواقع مؤهل للدمار إن رأى أي شيء، الأخت أو الأخ، أو الابن، أو الشرطي، أو الواعظ، أو رأى شيئاً على الشاشة، كل شيء مستعد لافتراسك ما إن تقع عليه عيناك، وهذا يشمل أيضاً أشياء كثيرة، في بعدها الرمزي، من الجهاز الذي في يدك، إلى السلع التي تقع عيناك عليها، كلها تفترسك لأنها أُعدَّتْ لذلك.
أما خارج هذه الأفلام، فالحياة تقول لنا: ليس في التوقّف عن الكلام أي نجاة، ولا في التوقف عن التنفس، ولا في إغماض العينين أو دفنهما تحت عصابة سوداء مربوطة بإحكام حول الجمجمة. فالحياة كانت دائماً خارج شروط العيش هذه، ولم تنشأ الحضارات وتستمر إلا بإطلاق هذه العناصر، ولذا يبدو شرط الاستمرار اليوم، بصَمتِه وعماه وبقلّة أوكسجينه، شرطاً لا يقود نحو أي شكل من أشكال الحياة، حتى لا نقول إلى أي شكل من أشكال الحضارة.
من رواية «حرب العوالم»، مروراً برواية «451 فهرنهيت»، ورواية «1984»، ورواية «الطريق» وغيرها الكثير الكثير، وما بين فيلم «أوديسة الفضاء»، و «ذكاء اصطناعي»، و«محركات قاتلة» الذي تتحوّل فيه المدن الكبيرة إلى كتل معدنية تسير على عجلات عملاقة، وتتنقل من مكان إلى مكان باحثة عن طرائدها الصغيرة: المدن الأصغر والبلدات والقرى، التي تسير على عجلات أيضاً، لكي تستطيع الهرب. بين كل هذا وذاك يبدو الأمر أكثر من مصادفة: أن تتفق كل هذه العقول المبدعة على أن النهاية ستكون حزينة قاتمة.
ولكن، كي نقاوم تلك النهاية، بابتسامة، حتى لو كانت حزينة، وبفكرة، حتى لو بدت طيبة وأضعف بكثير من أن نواجه بها هذا المصير، سنقول: إن هذه العقول المبدعة لا تريد إلا أن تحذّرنا. أما النهايات الحقيقية فسيكتبها على تراب هذا الكوكب أولئك الذين استمعوا لهذه التحذيرات وأصروا على أن يتكلموا ويروا ويتنفسوا ملء رئاتهم.
وبعد:
لعلّنا أعمدةُ الكون
فارفعوا رؤوسكم عــالياً
لتظلّ السماءُ عــالية!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نابليون العربي:

    تفاءل ياأخي..الموت الحقيقي ليس بالأفلام بل بالزمان.إنْ شاهدت كل أفلام هوليوود لن أخشى المستقبل.ولو وضعوني في مكان هاديء
    ولا أتنفس وفي داخل صندوق الطيورمقفل.إيماني الحقيقي سينبت لي جناحان تمتد إلى الآفاق فأحلق.نعم نحن أعمدة الكون الأربعة كي تظلّ سماؤنا ورؤسنا عالية..وإلا لما أنزل الله في أرضنا التوراة والزبور والإنجيل والقرآن.إنّ الكتابة التي تفتقد للتفاؤل دكان بضاعته مزجاة.

  2. يقول سوري:

    لعلي يا حبيبتيى
    أن أرسم عينيك
    على صفحة السماء
    ليكونا في الليل قمرين
    وفي النهار شمسين
    ليضيئا لي طريقي
    إلى السماء

إشترك في قائمتنا البريدية