مفاجأتان، لا واحدة فقط، صدرتا عن بشار الأسد فيما لا يتسق مع ما تفوه به على شاشة سكاي نيوز عربية الأسبوع الماضي. فأرسل وزير خارجيته إلى القاهرة للمشاركة في اجتماع لجنة الاتصال العربية المنبثقة عن اجتماع عمان، بعدما أوحى كلامه في المقابلة التلفزيونية المشار إليها بأنه قد أغلق الباب تماماً على «المبادرة العربية» التي تقودها الرياض. لا نعرف ما دار في اجتماع القاهرة، لكن تصريحات وزير الخارجية المصري، وكذلك البيان الختامي الصادر عن الاجتماع، لا يعطيان أي انطباع بأن المبادرة العربية قد انتهت بفعل تعنت رأس النظام، بل قالت التقارير الصحافية إنه تم تسليم فيصل المقداد قائمة بما هو مطلوب من النظام في الفترة القادمة قبل الاجتماع الثاني للجنة.
تمثلت المفاجأة الثانية في زيادة رواتب موظفي الدولة بنسبة مئة في المئة، بعد أسبوعين من حراك اجتماعي غاضب بسبب الأوضاع المتردية في مناطق سيطرة النظام إلى درجة أنذرت بتفكك القاعدة الاجتماعية المؤيدة. صحيح أن هذه الزيادة لن تحل أي مشكلة بالنظر إلى احتياجات الحد الأدنى لمتطلبات الحياة تفوق الرواتب، حتى بعد مضاعفتها، بعشرين أو ثلاثين ضعفاً، حتى إذا لم نحسب رفع الدعم عن المواد الأساسية ولا الزيادة الجديدة على أسعار المحروقات، ولا الهبوط الجديد لليرة أمام العملات الأجنبية في أعقاب مقابلة الأسد، بما يعني أن الزيادة الجديدة قد تبخرت سلفاً. كل هذا صحيح، ولكن اتخاذ القرار بزيادة الرواتب، بعدما امتلأت صفحات الموالين على مواقع التواصل الاجتماعي بالتذمر، وبعدما ظهر حراك معارض جديد، ذو طابع سري إلى الآن، في مناطق سيطرته، يعتبر بحد ذاته مفاجئاً في سلوك النظام الذي يتباهى الناطقون باسمه بأنه «لا يقدم تنازلات تحت الضغط!».
تتيح لنا هذه المقارنة بين التشدد الكلامي للأسد و«انقطاع صلته بالواقع» كما شاع القول، وبين «الواقعية» في الانجرار الطوعي إلى «الفخ» العربي على ما وصف المبادرة العربية في المقابلة، من خلال مشاركة وزير خارجيته في اجتماع القاهرة، كما في «الاستجابة لمطالب الشارع» فيما خص الأوضاع المعيشية الكارثية من خلال زيادة الرواتب، قراءة مختلفة لهذا السلوك المزدوج يمكن وصفه بالابتزاز وجرجرة الأقدام في الانصياع إلى المبادرة العربية. بكلمات أخرى: أراد النظام من خلال الكلام المتشدد على «سكاي نيوز عربية» أن يحاول ابتزاز الجانب العربي للحصول على مكاسب مقابل ما يعتبرها تنازلات منه. وإلا ما معنى مشاركة المقداد في اجتماع القاهرة بعدما اعتبر الأسد العلاقات العربية ـ العربية «شكلية» ولا تعمل على طرح حلول للمشكلات؟
هذه الزيادة لن تحل مشكلة بالنظر إلى احتياجات الحد الأدنى لمتطلبات الحياة تفوق الرواتب، حتى بعد مضاعفتها، بعشرين أو ثلاثين ضعفاً، حتى إذا لم نحسب رفع الدعم عن المواد ولا الزيادة الجديدة على أسعار المحروقات، ولا الهبوط لليرة، بما يعني أن الزيادة الجديدة قد تبخرت سلفاً
حتى فيما خص تشدد الأسد في رفض اللقاء بالرئيس التركي أردوغان «بالشروط التركية» أي بدون انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، رأينا أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قد قال، تعقيباً على هذه التصريحات إن تركيا «تتوقع سلوكاً واقعياً» من النظام! وهذا ما يعني أن احتمال «شرب المرطبات» في لقاء أسد وأردوغان المحتمل في فترة قادمة ما زال قائماً ويتم العمل على إنضاجه بإشراف الوسيط الروسي.
ومن مخرجات اجتماع لجنة الاتصال العربية في القاهرة، الاتفاق على مواصلة اجتماعات اللجنة الدستورية في العاصمة العمانية مسقط، بخلاف ما أوحت به تصريحات الأسد بإغلاق الباب أمام أي حل سياسي. صحيح أن اجتماعات اللجنة الدستورية لن تقدم ولن تؤخر في التقدم نحو حل سياسي حقيقي، كما كانت الحال دائماً منذ تشكيلها من قبل الراعي الروسي قبل خمس سنوات، لكن توقف اجتماعاتها تماماً بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ثم إعلان كازاخستان عن انتهاء استضافتها لاجتماعات مسار آستانا، بعد الاجتماع رقم عشرين، كانا نوعاً من تخفف النظام تماماً من «عبء الحل السياسي» حتى لو اقتصر الأمر على التسمية بلا أي مضمون. أما الآن فهو أمام مبادرة عربية لا تكتفي بالحديث عن الحل السياسي كطريق وحيد لحل «الأزمة السورية» بل تحيله إلى القرار رقم 2254 لمجلس الأمن الذي يرى فيه النظام «كأس السم» الذي يراد له تجرعه. هذا ما أكدت عليه المبادرة العربية، وما شعر وزير الخارجية الأردني بالحاجة لتكراره أمام وسائل الإعلام في زيارته الأخيرة إلى دمشق الشهر الماضي.
مما يرجح فرضية أن التشدد اللفظي لبشار الأسد هو وسيلة للابتزاز قوله في المقابلة إياها إن العقوبات المفروضة على نظامه في إطار قانون قيصر «ليست مشكلة» في رسالة موجهة إلى الراعي السعودي للمبادرة مفادها: يمكنكم تقديم مساعدات مالية مباشرة من غير الخوف من شمولكم بالعقوبات الأمريكية. «فقد تغلبنا على هذه العقبة» كما تابع القول في السياق ذاته.
إضافة إلى الضغوط العربية عليه، في إطار المبادرة العربية، ثمة ضغوط أكثر «حسية» تستهدف الوجود الإيراني في سوريا من خلال ما تتناقله تقارير صحافية عن استعدادات أمريكية لوصل مناطق شرق الفرات بقاعدة التنف في الجنوب لقطع الطريق أمام خط الإمداد الإيراني عبر العراق وصولاً إلى لبنان. وإذا صح ما قاله المرصد السوري لحقوق الإنسان بصدد نقل مقاتلين من فصائل «الجيش الوطني» التابع لتركيا إلى قاعدة التنف لمواجهة الوجود الإيراني، فهذا يعني تفاهمات تركية ـ أمريكية، بعد قمة فيلينوس للحلف الأطلسي، تنهي تعارض الأجندات بين واشنطن وأنقرة الذي طبع السنوات السابقة بطابعه، وتشكل مزيداً من الحصار العسكري للنظام بما يعزز الضغوط العربية لإرغامه في السير على طريق الحل السياسي.
كل ذلك لا يعني تفاؤلاً بانتهاء قريب للمأساة السورية. فالنظام يملك وسائل عديدة للتلاعب والمماطلة لا يتوقع معها أن تثمر تلك الضغوط نتائج مرضية للسوريين ولو بالحد الأدنى. فما يمكن أن يتحقق بصورة جزئية بنتيجة الضغوط هو موضوعا اللاجئين والكبتاغون، أما «الانتقال السياسي» وفقاً للقرار 2254 فهو ما زال بعيد المنال في الشروط القائمة اليوم.
كاتب سوري