إذا نظرنا إلى الأسطورة، سنجد أن الروايات الأولى المتوارثة عبّرت عن متطلباتهم الروحية، وإذا كانت الأساطير معنية بالدرجة الأولى بالمقدسات التي شغلت الإنسان في تفكيره الأولي، إلا أنها ترتبط بوجدانه وقضاياه الإنسانية بشكل كبير، وهو ما يجب أن نعيه الآن، خاصة أن الأساطير القديمة توظّف كثيرا في الروايات الحديثة والمعاصرة، وكأن الراوي المعاصر يأبى إلا العودة إلى السرديات الأولى (الأساطير) التي رواها أسلافنا منذ أزمنة سحيقة، مع توظيفها في بنيته الروائية الحديثة، ساعيا للكشف عن ملامح تشابه بين إنسان العصر الحاضر وإنسان التاريخ القديم، فأينما كان السرد، حضر الإنسان، وإن كانت الأسطورة موضوعا.
ولن يقاوم الراوي – كما يذكر فراس السواح – رغبته الملحّة والمشروعة في الإضافة إلى الحكايات عناصر جديدة، نابعة من خياله الخاص، ومن ظروف اجتماعية مستجدة، تحيط بالراوي الجديد، وعندما تأخذ القصة شكلها المكتمل، تكون قد عبّرت عن طابع فني وفكري وأدبي لشعب من الشعوب، إلا أن هذا الشكل الفني لا ينفصل عن مضمونه الذي ينحو غالبا لأن يكون تأمليا، يُقدِّم للمجتمع نظريات في السلوك والأخلاق والتوجيه الاجتماعي، فراوي الأمثال، والحكايات، والأساطير؛ يستخدم الشفاهة وسيلة له، وتتناقل الحكايات عبر الأجيال بالحفظ الشفاهي، وهو ما يفسح المجال لخيال الراوي للإضافة والحذف، والزيادة والنقصان، وبمرور الوقت، قد تضمحل السرديات الأولى، وتتبقى الخيالات التي صاغها الرواة المتتابعون، بما فيها من حكمة ورؤى، تعبر عن أفكار المجتمع زمنها، ونظرة الناس للكون وما وراءه.
فلا ريب أن تتجذر العلاقة بين الرواية والأسطورة، حيث تتمتع الأخيرة ببنية لغوية رامزة، وبناء فني يستحوذ على تطلعات الروائي، ويجعل الأسطورة تلتقي مع الرواية، في اتصال يشف عن قابلية بين الاثنين للتبادل والمناولة، ضمن معطيات كل واحدة منهما. كما أن بين الشكلينِ خواص مشتركة مثل الحبكة والشخصيات والموضوع والصورة الأدبية، بجانب أن الأسطورة تحمل بنيات تأويلية تشابه بنية الرواية.
لندرك أن الحكايات التي ينشئها الإنسان قديما أو حديثا تتشابه وتتلاقى، لأن منشئها هو الإنسان، يعبر فيها عن ذاته، وقضاياه، ويمكن لروائي العصر أن يعود إلى أساطير الماضي، لدواع دلالية وفنية وتأويلية عديدة، تبدو جلية في توظيف «مجموعة من الرموز الأسطورية في الشخصية وفي اللغة وفي الأدوات السردية. ولو أردنا قراءة الأسطورة في بعدها الإنساني لوجدنا أنها حكاية تقليدية، وحكاية مقدسة، يلعب أدوارها الآلهة ونصف الآلهة، أحداثها ليست مصنوعة أو متخيلة، بل وقائع حصلت في الأزمنة الأولى المقدسة، فهي معتقد راسخ، الكفر به فقدان الفرد لكل القيم التي تشده إلى جماعته وثقافته، وفقدان المعنى في هذه الحياة. فالأسطورة ظاهرها خيالي، مرتبط بالعقيدة المقدسة، ولكن باطنها إنساني، لأن الإيمان بالأسطورة عنوان على ارتباط الإنسان بجماعته البشرية التي ينتمي إليها، فكأن الإيمان بالأسطورة سبب لتواصله الفكري والعقدي مع جماعته، ولا يحق له العيش وسط أبناء جماعته، إلا إذا كان متوافقا معهم في عقائدهم.
إن ما يميز الأسطورة هو أجواؤها الدينية المقدسة، التي تنتقل من جيل إلى جيل بالرواية الشفهية، ما يجعلها ذاكرة ثقافية للجماعة؛ تحفظ قيمها وعاداتها وطقوسها وحكمتها، وتنقلها للأجيال المتعاقبة، وتكسبها القوة المسيطرة على النفوس. فهي الأداة الأقوى في التثقيف والتطبيع والقناة لترسيخ ثقافة ما وضمان استمرارها عبر الأجيال، وحتى في فترات شيوع الكتابة لم تفقد الأسطورة الشفهية قوتها وتأثيرها، حيث حُفِظت الألواح الفخارية في المعابد وفي مكتبات الملوك، لتمنع تحريف الأسطورة بالتناقل وبقي السمع هو الوسيلة الرئيسة في تداولها. فالأساطير ذاكرة للجماعة الواحدة في العصور القديمة، وأي جماعة – صغرت أو كبرت – تشترك في إرث واحد، يتمثل في أساطير ميثولوجية، تمثل المرجعية الروحية لها، ويتوجب على أعضاء الجماعة معرفة الأساطير وأجوائها وشخصياتها ليفهموا تراث جماعتهم المتناقل، فهو سبيلهم للانتماء والتكيف الروحي والفكري مع جماعتهم.
وكان للأسطورة دور أساسي في استقرار ما يسمى بالحكم الأوتوقراطي، أي السلطان المطلق، والتملك التام، والثروة الوافرة، ويدعم شيوخ القبائل الملك الحاكم الذي يدعي أن سلطاته مستمدة من الله، وليس من الأمة، وتترسخ هذه الفكرة من خلال نشر الأساطير الدينية والخرافات والتهاويل، فيصبح الحاكم متصلا بالآلهة، ورمزا تنسج حوله أقاصيص التقديس والتبجيل، خاصة إذا كان هذا الحاكم بصيرا بأساليب القتال، فيتم إبداع الملاحم أو شعر القصص الملحمية، ويرددها الشعب.
بات للأسطورة دور سياسي وديني واجتماعي، استنادا لتأثيرها الفني، فإذا قرأناها في منظور علاقتها بالإنسان، فإنها تكون مطية للحاكم المطلق في ترسيخ حكمه، والتفاف الشعب حول ملكه. ولا شك في أن للدين والأسطورة تأثيرا هائلا في نفسية الشعوب، بما يدعم الاستبداد من ناحية، ويدمج الشعب في وحدة نفسية جمعية، قوامها أسطورة إلهية، وهذا ما يفسر تدوين الأساطير على جدران المعابد، من قِبل الكثير من الحكام، أي أنها حُفِظَت لتأييد سلطة الحكم لها، ما يدل على أن للأدب عامة، والسرديات خاصة أدوارا سياسية، تساهم في ترسيخ السلطة، مثلما تساهم السلطة في انتشارها، ونستطيع أن نجد هذا – بشكل أو بآخر- في موقف السلطة من بعض الأدباء، واحتفائها بكتب بعينها، خاصة على صعيد الرواية التاريخية والسياسية. فالأسطورة نص سردي، ثري في عمقه التاريخي والديني، يعيننا على فهم معتقدات أجدادنا منذ آلاف السنين، وبما كانوا يؤمنون، وتصوراتهم عن الإله، والميتافيزيقا، وهو ما نظر إليه الروائيون المعاصرون، بوصفه ميراثا قصصيا، يمكن استخدامه في السرد المعاصر ليكون أداة فنية، أو قناعا، أو رمزا، أو رواية بعيون معاصرة عن الإنسان القديم، فما أجمل أن يتتبع الروائي المعاصر خطى الحاكي القديم!
والمثال على ذلك، أن ازدهار الرواية التاريخية – في القرن الثامن عشر في أوروبا – جاء ناتجا عن زيادة الحس القومي والوطني لدى سكان الدول الأوروبية، نتيجة الثورات المتتابعة، وشيوع فلسفة التنوير، التي تمجد المواطن وتاريخ الوطن، كما في روايات والتر سكوت التاريخية، وقد استهدف سكوت تقديم تاريخ لبريطانيا، مستندا إلى التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الهائلة، التي أثّرت في المجتمع الإنكليزي خلال القرن الثامن عشر، في أعقاب الثورة الإنكليزية في القرن السابع عشر، حيث اشتدت الرغبة لدى الجمهور الإنكليزي في الاعتزاز بوطنه، وقراءة تاريخه بشكل معمق، وما فيه من عناصر الفخار، وشخصيات المجد، فانتشرت الرواية التاريخية بقوة، وتراجعت الرواية الاجتماعية الواقعية التي سادت من قبل، وتعمد سكوت إرضاء التوجه العام للدولة، وسيادة النزعة المحافظة للمجتمع، فلم يشر إلى الصراعات والإشكالات القائمة في واقعه، مكتفيا بسرد الأمجاد التاريخية.
وبذلك يمكن أن نصل إلى نتيجة مفادها أن الأدب عامة – والسرد في كافة أشكاله خاصة – لا يمكن أن ينفصل عن الإنسان، فمبدعه ومتلقيه وحافظه وناقله هم البشر، ولا بد من قراءته في دائرة الإنسانية، حتى لو كان مغرقا في الخيالية والأسطورية، فخطاب الرواية مهما أغرب فإنه يتوجه من ثم إلى الإنسان، وتكون مهمة القارئ والدارس النظرَ في أهمية الخطاب الروائي ودوره وتأثيره الإنساني.
كاتب مصري