ما هي تبعات التطبيع مع والاعتراف بكيان مثل الكيان الصهيوني، خصوصاً من قِبل الدول «النامية» أو الصغيرة أو المتطلعة لأدوار أكبر في المجتمع الدولي؟ تعتقد بعض الحكومات أو الأنظمة السياسية ومعها بعض من شعوبها، أن مشروع القبول بالكيان الصهيوني، بأي صيغة قبول كانت، هو مشروع إن لم يكن مفروضاً منطقياً بسبب فائدته، فهو ملزم تماماً في عالم اليوم البراغماتي بهدف تلافي مضار «الوقفة المبدئية»، بدافع من الدفاع عن الذات (شخصية أم سياسية كانت) والذود عن مصالحها التي ستتضرر ضرراً عظيماً بمعاداة هذا الكيان الأخطبوطي الممتدة أياديه عبر العالم كله، والمتعددة منابع قواه من مصادر متناثرة حول العالم كله كذلك.
يقرأ المتصالحون والمطبعون الجدد الحكاية بسرديتين، الأولى تعترف بعدائية الكيان وبهويته الاستعمارية وبحلوله على أرض ليست له واضطهاده لسكانها الأصليين وسرقته لممتلكاتهم وأراضيهم، إلا أنها بعد ذلك ترى، فعلياً أو تمثيلياً، أي عن اقتناع أو فرضاً «نفسياً» لسردية موازية بهدف إراحة للبال والضمير، أن هذا الكيان تطور وتقدم وقدّم خدمات للشعب المُستَعمَر وطورهم ونقل أرضهم «من الظلمات إلى النور»، ما يستوجب مسامحته والقبول به وضمه إلى المجتمع المحلي والإقليمي والدولي عوضاً عن محاربته ورفضه، رافعة شعار «إلى فات مات»، ومبررة بالمنطق القانوني لسقوط الجريمة بالتقادم.
أما السردية الثانية، التي هي قديمة في المجتمع الغربي بل ظهرت فجأة بين «الأصدقاء الإقليميين الجدد» الذين كان لهم موقف مخالف في السابق، فهي تنحو لإيجاد حق تاريخي للصهاينة على الأرض الفلسطينية، سواء كان حقاً تاريخياً أم دينياً أم سياسياً أو حتى إنسانياً، ففلسطين منبع لليهودية كذلك، اليهود كان لهم وجود على الأراضي الفلسطينية منذ زمن طويل، وأخيراً هم شعب مضطهد مظلوم مكلوم ارتكب فيه هتلر أبشع الجرائم البشرية، وعليه فهو يستوجب تعاطف الناس وتسامحهم، بل وتبرعهم بأرضهم وبيوتهم ولربما حيواتهم، تخفيفاً لهؤلاء عما فعله بهم التاريخ وتكفيراً عن ذنب ارتكبته البشرية بحقهم، وبما أن الفلسطينيين بشر، وجب عليهم دفع الثمن، لماذا هم تحديداً؟ حظ ونصيب.
و«الأصدقاء الجدد» والقدامى في الواقع في أنحاء العالم يعتمدون المنطق البراغماتي ويستثيرون الفكرة الداروينية لبقاء الأقوى، ورغم أنها فكرة علمية بحتة فسر بها داروين التطور الحي ولم يروج لها كصيغة اجتماعية وسياسية للحياة، فإن هؤلاء «الأصدقاء» يرون فيها منطقاً «للتعايش» البشري، حيث يعتقدون أن هناك مصالح كبيرة لاستقرار هذه القوى العظمى و«الديمقراطية الوحيدة» في المنطقة، ولسلام شعبها ولتثبيت أقدام سلطتها، ذلك أن رسوخ إسرائيل في المنطقة سيرسخ الديمقراطية وينعش الاقتصاد ويقوي التطور العلمي، ليصبح الشرق الأوسط، خلال العشرين سنة القادمة، المنطقة الإسكندنافية الجديدة. يا لغباء البشر!
وهناك من هؤلاء الأصدقاء من قد لا يرون فوائد جمة آتية من رسوخ الكيان، لكن تلك الفوائد تتحقق من حماية أنفسهم من شره. بمعنى أن هؤلاء لا يعتقدون بفائدة وجود الكيان، ولكن يعتقدون بضرورة تلافي مضار محاربته. هذا الكيان بالنسبة لهم شر لا مجال لهزيمته، ولأنك «إنْ لم تستطع أن تغلبهم فلتنضم إليهم»، لم يبق أمام هؤلاء سوى حل مجاراة الكيان والقبول به والتودد له حتى لا يصب هذا الكيان الحقير، والذين يعرفون هم تماماً حقارته، جام غضبه عليهم، وحتى يتسنى لهم أن يستفيدوا من بعض خيراته. هؤلاء مثلهم في تفكيرهم مثل عبدة الشيطان، يعبدونه لأنهم يعرفون شره، ويتوددون له حتى يقبض شره عنهم وحتى يعفيهم من آفات حقده.
ولكن هل هذا كلام ملقى على عواهنه؟ أنا أدعي أن هناك دليلاً حياً على فُحش المشهد، صورة مرسومة لمستقبل مظلم يقودنا إليه القبول والترحيب المصلحي بهذا الكيان في العالم الدولي، وخصوصاً في عالم اليوم المدعي للحقوقية والإنسانية والعدالة، واحترام التقسيمات الدولية الحديثة. فكروا معي في هذه الحكاية، حكاية مجموعة أفراد ذهبوا لأرض غير أرضهم، أصروا على أنهم أكثر تطوراً من سكانها الأصليين، فأعملوا فيهم الذبح والقتل، وحاربوا على كل الجبهات بضراوة وتعنت واستكبار، وحين رضخ العالم الذي كان نامياً وقتها بهم، تطاولوا في تعدياتهم، فنالوا من أراضي جيرانهم، وطردوا سكانها الأًصليين كذلك، وإلى يومنا هذا هم يسمون هؤلاء «مهاجرين غير شرعيين»، بل وبلغت بهم الوقاحة أن شرعوا في بناء جدار عنصري قبيح يفصل بين أرض وأرض كلها كانت تنتمي لشعب مجاور. ثم حين استتب لهم الأمر على الأرض المغتصبة وعلى الأراضي المجاورة التي اغتُصِبت كذلك، تطلعوا للخارج، فعبروا البحار والمحيطات لينشروا «السلام والديمقراطية»، قَتلوا هنا، وفَجّروا هناك، وإلى الساعة وهم يدخلون بجيوش فتاكة لدول لا علاقة لهم بها ولا مبرر لهم لدخولها، فيٌعملوا فيها سيوف تكبرهم واعتقادهم بأفضليتهم على كافة البشر، ليخرجوا منها بعد ذلك مفضوحين، وفي الوقت ذاته تاركين الشعب المحتل منهكاً مفككاً مضعضع الأطراف، بل ووصل بهم الأمر أن حين صوّت العالم على قرار وقف إطلاق النار لوقف إبادة فاضحة قتلت ما يزيد على العشرين ألف طفل، دع عنك العدد الكامل من الضحايا الذي يعجز العقل عن فهمه، أطلقوا «فيتو» لوقف القرار وللدفع باستمرار ذلك مثال حي لتبعات القبول بكيان غاصب وللتبرير بتلافي شره. شره لن يخفت وأذاه لن يقل، وسيكبر هذا الكيان ويكبر وينتفخ إلى أن ينفجر في وجه البشرية جميعاً، ليأتي يوم على هذه البشرية تحتاج فيه لأن تتعاضد في محاولة لوقف تفجير صغارها، وليقف هذا الكيان بكامل شره نافثاً سمه في وجه العالم ذاته الذي صالحه وقبل به، وليقول «لا» لوقف إطلاق النار، ونعم لاستمرار الإبادة، بل ويقولها وهو يلعق الآيس كريم.
هذا المثل الحي إهداء للأصدقاء الجدد، ونقول لهم الأيام دول..