مرّت فكرة «نقد الغرب» و«المركزية الغربية»، أو حتى مواجهتهما بأكثر الطرق عنفاً، بمراحل كثيرة، طيلة القرنين الماضيين، وهي بالتأكيد ليست فكرة مُستجدّة مع «التحرر الوطني»، بصيغه المعروفة في القرن الماضي، كما أنها ليست عربية، أو إسلامية، بل نجدها لدى أمم وشعوب كثيرة، من اليابان، مروراً بروسيا، وحتى أمريكا اللاتينية، بل حتى في أمم أوروبية كبرى، بما فيها ألمانيا نفسها، حيث سادت لدى بعض القوميين والمحافظين عبارة «الغرب يبدأ غربي نهر الراين». إلا أنه من الملحوظ، وفي كل الحالات، أن «نقد الغرب» مرتبط دائماً بأسئلة التحديث، والصراعات مع الدول الأسبق إليه، مثل بريطانيا والولايات المتحدة وهولندا وفرنسا. وسواء جاء ذلك التحديث بصيغة هيمنة، تبدو مفروضة بشكل أو بآخر من تلك الدول، بعد هزيمة تاريخية في معارك معها؛ أو أتى بصيغة «ثورية» مُصدَّرة، كما في الحالة الفرنسية بالتحديد، فإن نقد مركزية الغرب كان دائماً بحثاً عن طريق خاص بعيداً عن الضغط الغربي، أو للتفاعل معه بأفضل طريقة. وبالتالي يمكن تسجيل ملاحظة مبدئية، وهي أن ذلك النقد لا يمكن أن يكون أصيلاً حقاً، أي نابعاً من أسئلة ذاتية، أو محلية صرفة، بل الغرب دائماً في القلب منه، ومحرّكه الأساسي. لا يمكن لناقد «المركزية الغربية» إلا أن يكون غربياً، بشكل أو بآخر.
وكما ارتبط «نقد المركزية» بحركات تحرر، استطاعت انتزاع كثير من الحقوق لشعوب وفئات اجتماعية متعددة، فإن كثيراً من الحركات القومية المتطرفة، المرتكبة لأبشع وقائع الإبادة الجماعية في التاريخ، كان لها موقفها الشديد ضد قيم الغرب، وهذا أمر يمكن رصده تاريخياً في دول متعددة، مثل اليابان وتركيا وألمانيا، بل حتى الصين إبان «الثورة الثقافية»، وكوريا الشمالية وكمبوديا. لكن ليس كل نقّاد الغرب كانوا ثواراً مسلّحين، أو أنصار تحديث قومي شمولي، هنالك أيضاً العديد من المفكرين والباحثين والنقّاد الأدبيين، وهؤلاء حاولوا تفكيك الرواية الغربية عن العالم والتاريخ؛ أو تجاوز طروحات الفلسفة و»العقل الغربي»؛ أو إنتاج حقول بحثية جديدة، لم تلتفت إليها المعرفة الغربية والاستشراق، لدرجة أن «نقد المركزية» بات أساسياً في كثير من الإسهامات الثقافية والأكاديمية في عصرنا؛ بل مؤثراً في حركات اجتماعية غربية، لها أتباع ومقلّدون كثر في العالم «غير الغربي»، تسعى لمواجهة المركزية، ودعم كل ما هو «أصلاني»، في مواجهة التخريب الغربي، أو الرأسمالي أو النيوليبرالي. لكن ماذا سيحدث إذا فككنا «المركزية الغربية» فعلاً؟ ماذا سنجد وراءها؟
أين غير الغربي؟
قد يمكن التسرّع بإعطاء إجابة مفادها، أن كل التجارب والحركات السياسية، التي حملت أيديولوجيا واعية برفض الغرب، أو مواجهته، لم تنتج إلا أبشع الوقائع وأسوأ الأنظمة؛ فيما الدول الأكثر اعتدالا، التي تقوم على خصوصية ما في تجربتها أو ثقافتها، مثل الصين المعاصرة وفيتنام والسعودية، لا تضع نفسها في موضع العداء الجذري للغرب وقيمه، وتوجد عناصر غربية كثيرة في أنظمتها الاقتصادية والعمرانية والتعليمية وغيرها، كما أنها تقيم علاقات متينة مع الدول الغربية. وبالتالي فلن نجد وراء الرفض الكامل لـ»المركزية» إلا العنف والتشدد والقمع، وأردأ الدول والميليشيات. إلا أن أغلب نقّاد المركزية الأكثر احتراماً في عصرنا، لا يطالبون فعلياً بالقطيعة مع الغرب، أو إيجاد أصالة تامة ما وراء هيمنته، بل يسعون إلى خلخلة ما ترسّخ في عالمنا من بنى عنصرية وتمييزية؛ وإعادة الاعتبار لما أُقصي من أصوات، خلال الحقب الاستعمارية، وما رافقها من مسيرات التحديث؛ فضلاً عن إعادة بناء ذاكرة جماعية جديدة، عبر كتابة أخرى للتاريخ، وبالتالي فهم يسعون إلى توسيع إمكانيات عالمنا المعاصر، وزيادة تعدديته. قد يمكن القول، بتأويل أكبر، إنهم يعملون على توسيع «الغرب» نفسه، ليزداد مرونة في استيعاب حالات وتركيبات ثقافية واجتماعية شديدة التنوّع. يمكن القول أيضاً إن أفكار «نقد المركزية»، بل حتى «نزع الاستعمار» المعاصرة، انتشرت في مختلف أرجاء العالم مع العولمة وتقدمها.
إلا الإشكال يبدأ لدى الحديث عن «أصلانية» Indigeneity، بوصفها ربطاً بين سمات ثقافية لمجموعات بشرية، غالباً ما تُقدّم بوصفها سابقة للتحديث الرأسمالي/الغربي، وتحافظ على نمط حياتها «الأصيل» منذ عصور؛ ومكان أو بقعة جغرافية معينة، بكل ما يتفرّع عن ذلك من مطالب وحركات اجتماعية، بل حتى مقاومات للهيمنة الغربية؛ فضلاً عن طروحات، تبدو شديدة اليسارية، مثل الحفاظ على المشاع، أو استعادته، ويُعنى به بنىً من العلاقات الاجتماعية، وأساليب الإنتاج، القائمة على ما هو «مشترك» في الجماعة الأصلية، من اللغة والثقافة وحتى أنماط الملكية، التي من المفترض أنها جماعية، ومغايرة للمفاهيم الغربية الليبرالية عن الملكية وتعريف الذات. هنا قد يتحوّل الموضوع إلى نوع من الأيديولوجيا الأصلانية المتشددة Indigenism، التي لا يمكن اعتبار أنها تقوم على وقائع ومفاهيم دقيقة، لأنه يصعب في عالمنا إيجاد جماعة «أصلية» فعلاً، فحتى الجماعات الإثنية/الفلاحية، التي تبدو أنها حافظت على نمط حياتها، دخلت في علاقات معقدة، سواء مع الاستعمار، أو أنماط التحديث في دولها الوطنية، أو العولمة، وكثير من مظاهرها الثقافية، هي إعادة إنتاج حديثة ومعاصرة، كما لا يوجد ما هو ثابت أو معزول تماماً في الثقافات، إلا في حالة بعض القبائل في منطقة الأمازون مثلاً، التي يحاول ناشطو الإثنوغرافيا حمايتها من الانقراض. وفوق هذا وذاك، فإن ما يُظن أنه علاقات مشاعية وسط «الأصليين»، قد لا يتطابق مع أي مفهوم جدّي للمشاع، ولا يعدو، في كثير من الأحيان، أن يكون بنى أبوية تقليدية، فيها كثير من علاقات الاستغلال.
أحد أشهر من لفت الأنظار إلى قضية «الأصليين» مثلاً كان مورينجي أولي باركيبوني، وهو ناشط من قبائل الماساي، تحدّث أمام الأمم المتحدة عام 1989 عن مشاكل جماعته الإثنية مع التحديث والسياسات الدولية. إلا أن باركيبوني ليس «أصيلاً» للدرجة الذي تصوّره بها الأيديولوجيا، بل كان نائباً في البرلمان التنزاني، ومثقفاً على النمط «الغربي الحديث.
مشكلة الأيديولوجيا الأصلانية، لا تكمن فقط في عدم دقتها، بل قيامها على افتراض فلسفي قد تكون له نتائج سياسية صعبة: يوجد جوهر أصيل، أكثر طبيعية وصدقاً من التحديث، وما أنتجه من بنى وكيانات مصطنعة، لم تؤد سوى للاضطهاد والاستلاب، وبالتالي فإنه أعلى أخلاقياً من «الغرب» ورأسماليته واستعماره. هنا نجد أنفسنا قد عدنا إلى ما يشبه سيرة رافضي الغرب الأصوليين، بعنفهم وأنظمتهم وكتائبهم المسلّحة. واستعلائهم القيمي والأخلاقي والسياسي، وربما مجازرهم المروّعة.
هل الغرب شرير؟
بالعودة إلى غايات نقّاد المركزية الغربية الأكثر احتراماً، فإن أساس فكرهم كان عدم تصليب مفهوم الغرب، ورفض التركيز الدائم على مواجهة اصطناعه، بما هو طبيعي، فكل ما في الطبيعة طبيعي في النهاية، بما في ذلك المصانع الملوّثة للبيئة؛ ومن زاوية نظر أخرى، فكل ما في المجتمع، سواء كان غربياً أو غير غربي، مُصطنع، ما دام مُنتَجاً اجتماعياً وثقافياً، وليس مجرّد عنصر خام، لم يدخل بعد في الشبكات الإدراكية والرمزية واللغوية للبشر. على خلاف ذلك، كان هدف النقّاد تفكيك ادعاء الغرب، بأنه مختلف عن بقية شعوب ومناطق العالم، وبالتالي سلبه تميّزه المزعوم: الغرب ليس استثناء في الحالة البشرية، لا في حضارته ومعارفه وعقله، ولا في همجيته وشرّه وعنفه. يقود كسر منظور استثنائية الغرب، واحتكاره للقيم الجيدة أو السيئة، إلى رؤية ما لدى «الأصلانيين» من مشاكل أيضاً، فكثيراً ما يعجز أيديولوجيو الأصلانية عن إدراك ما في الجماعات التي يناصرونها من علاقات قمع واستغلال وعنف، قد تصل إلى درجة تخريب الحياة وإبادة البشر.
مَنْ يناصر الأصلانيين؟
إعادة إنتاج الجماعات «الأصلية» في عصرنا، تتم بشكل مسيّس للغاية، ووفق حسابات صراعات اجتماعية تدور في دول حديثة، فضلاً عن ارتباطها بكثير من التنظيمات المُقامة على نمط غربي، سواء كانت أحزاباً سياسية، أو منظمات غير حكومية، وبالتالي فإن ادعاءات الجوهر الأصيل قد لا تكون إلا محاولة للتعمية عن شبكات المصالح والنفوذ والهيمنة القائمة، ولذلك فهي أيديولوجيا، بالمعنى القديم السلبي للمصطلح: وعي زائف، يسلب البشر السيطرة على عالمهم، والقدرة على إدراك أهم وقائعه وعلاقاته.
الأسوأ أن مناصري «الأصليين» غالباً ما يُصدِّرون وجوهاً، من المفترض أنها تعبّر عن كامل مجموعاتها؛ وفئات وتنظيمات معيّنة، بوصفها تجسيداً لكامل الهوية المضطهدة. هكذا مثلاً قد يصبح ناشطون في جماعات إسلامية في الدول الغربية تعبيراً عن «الإسلام»؛ أو تصير ميليشيا مسلّحة، ترتكب مجازر في منطقتنا، تجسيداً لمقاومة «السكّان الأصليين». قد يمكن الرد على ذلك، بلغة «الصواب السياسي» أو «التقاطعية»، التي ما يزال يهواها كثير من الأصلانيين الغربيين: ليس هذا إلا تأييداً للذكور المغايرين الإسلاميين ذوي الامتياز، ومنظورهم الثقافي والاجتماعي، على حساب كل الفئات الأخرى؛ وتدميراً، بدعم «استعماري»، لتعددية مجتمعاتنا وتنوعها، بما يساهم بترسيخ علاقات القوة، والقمع الهيكلي.
كاتب سوري