أعترف بأنني منذ حوالي ربع قرن لم أكن أحب كثيرا الأغاني الجديدة. هناك مطربون رائعون تفاعلت معهم وأحببتهم مثل، مدحت صالح وعلي الحجار وأنغام وشيرين عبد الوهاب، لكن ظل حبي للغناء القديم مسيطرا على روحي.
لا أقارن هنا بين الغناء قديما وحديثا، ولا بين المطربين، لكن هي العادة التي مشت معي منذ الطفولة إلى أيام الشباب وبعدها. العادة جعلتني أستمع من الجديد لأغنية أو اثنتين فقط، بينما قديما كان يمكن أن أمضي الليل كله مع أغاني عبد الحليم حافظ أو محمد عبد الوهاب أو نجاة أو فايزة أحمد أو فيروز أو أم كلثوم.
في السنوات الأخيرة انقطعت عن الاستماع للأغاني الجديدة، التي لم تخترق عادتي القديمة وانقطعت عن الاستماع إلى الأغاني القديمة أيضا! أنا مغرم بالموسيقى الكلاسيك، كتبت على إيقاعاتها كل أعمالي الأدبية، لكن ليس هذا هو السبب، بل كنت تعودت حين أسهر للكتابة أن أسمع شيئا من الطرب العربي لساعة، يثير فيها شيئا من الشجن في روحي، ثم أترك الليلة كلها للموسيقي الكلاسيك. ابتعدت عن الطرب العربي لأنه انتقل بي من مرحلة الشجن إلى مرحلة الذكريات، وكثيرا ما صارت دموعي تمشي معه. وجدت مع كل أغنية أسمعها سرادقا من الذكريات وأصدقاء وأحباء رحلوا، أو لا أعرف أين هم الآن. أماكن تغيرت أو انتهت في الإسكندرية، وليال في القاهرة لم أعد قادرا على إعادتها. ليال كنت أعود فيها من الخارج مع أول ضوء في الصباح. صار البيت هو الملاذ، ليس بسبب كورونا فقط، لكن بسبب طبيعي جدا وهو أن العمر لا يعطيني الفرص القديمة. لا يمكن التمرد على ذلك ولا يمكن الغضب، فالطريق مفتوح أكثر من كل وقت للرحيل عن الدنيا، ولا رادّ لقضاء الله، ولا بد من الرضا به.
صارت الكتابة هي الملاذ.. والقليل من القراءة غلبت فيها محبة قراءة الكتب التاريخية والاجتماعية والفكرية على الروايات، التي صارت تيارا هادرا لا يمكن لناقد أو شخص أن يتابعها كلها. ابتعدت عن الاستماع للطرب العربي، حتى لا تأخذني النوستالجيا إلى الشجن ومن ثم الألم، فلكثير من الأغنيات حكايات معي أو مع أصدقاء من الجنسين حرمتني الحياة منهم، ومع الأغنية يقفون أمامي في فضاء الغرفة. شاء القدر أن أمرض وتصاب إحدى فقرات الظهر بكسر وورم، وغير ذلك مما لا أريد الخوض فيه، ما جعلني أسافر إلى مستشفى للعظام في زيوريخ فيتم إجراء ثلاث عمليات جراحية كبيرة لي في العمود الفقري، حتى كتبت ضاحكا أن الدعامات المعدنية التي تم تركيبها ستجعل أي آلة للكشف عن المفرقعات مما نجده في أبواب الفنادق والمولات والمصالح سوف تصرخ حين أعبرها، وأفكر إذا استطعت المشي جيدا، أن أمرّ على كل البوابات في الليل لتصرخ، وتمتلئ المدينة بصراخها، ويتم الإعلان عن جائزة لمن يساعد في القبض على الكائن الذي يزعج البلاد في الليل بصراخ الماكينات، ويمر عليها ولا يراه أحد! في المستشفى السويسرية وفي غرفتي، وطبعا كل الغرف توجد شاشة تلفزيون كبيرة فيها قناة لليوتيوب كانت تسليتي وسط الألم، رأيت عليها أكثر من مئتي فيلم عربي قديم، وابتعدت عن الأغاني، اللهم إلا ما يكون في الفيلم حين تكون بطلته صباح أو شادية أو هدى سلطان أو غيرهن، ولم أشاهد لهن أفلاما كثيرة. كنت أبحث عن أفلام العصابات والضرب والقتل ليمر الوقت. شاء القدر حين عدت إلى القاهرة أن أدخل مستشفى أخرى لإجراء جراحة في البروستاتا، التي أرهقتني وهي مستشفى تستحق كل تقدير.. أقصد بها مستشفى الدكتور محمد غنيم للمسالك البولية في المنصورة. مستشفى مصنفة عالميا ضمن أعظم المستشفيات، تابعة لجامعة المنصورة، وهي مشروع قديم كان وراءه العالم الجليل والمثقف الاستثنائي فخر الوطن، وأقصد به الدكتور محمد غنيم فحملت اسمه. وجدتها لا تختلف عن مستشفى زيوريخ في البناء والنظام والنظافة وكل شيء، من الأطباء إلى الممرضات ومساعداتهن وسأكتب عنها في ما بعد.
أين ذهب الشعب الذي كان متيما بالغناء الجميل يسهر إلى الفجر مع أم كلثوم كل شهر، أو عبد الحليم حافظ، أو فريد الاطرش ليلة شم النسيم وهو يغني أغنية الربيع، التي رغم آلامها تعشقها الأكثرية من الناس.
تلفزيون الغرفة لم تكن فيه قناة لليوتيوب، لكن وجدت قناة «روتانا كلاسيك» تبث الأفلام المصرية طوال اليوم، وبينها دائما أغنية لأم كلثوم في المساء من إحدى حفلاتها. لطول الوقت والانتظار صرت أسمع أم كلثوم وأعرف أنها ستحرك أشجاني لكنني استسلمت لها. حملتني كما توقعت إلى زمن مضى بناسه وجماله، وفكرت في مشروع قديم لي، أشار عليّ كثير من الأصدقاء الشباب أن أكتبه، وهو كتاب عني مع الأغاني كما فعلت مع السينما. لقد قفزت هذه الفكرة بينهم بعد أن وجدوني أعلّق كثيرا على أحاديثهم عن الأغاني في صفحات فيسبوك وتويتر. فكرت أكثر من مرة أن أفعل ذلك، لكنني ترددت، وما زلت مترددا خشية الشجن الذي يتحول إلى ألم. ما معنى أن تستعيد ليالي الاستماع إلى عبد الحليم حافظ وهو يغني «في يوم من الأيام» أو «تخونوه» بعد أن فشلت قصة حبك، أو تستمع إلى «الأطلال» لأم كلثوم، وتتذكر صديقك أيام الصبا، وانتما تستمعان إلى الحفل والأغنية لأول مرة، وهو يبكي مع نهاية الأغنية ويقرر البحث عن حبيبته التي أخفاها أهلها في مكان غير معلوم، اعتراضا على حبه وحبها هو الذي في الثامنة عشرة من عمره، وهي التي في الثانية عشرة من عمرها، وكيف ذهبت معه للبحث عنها لدى أقارب لها يسكنون في منطقة الحضرة ولم نعثر عليها، أو جلستك وأنت طفل مع أختك الأكبر منك هي وصديقاتها في الحي، يتابعون برنامج ما يطلبه المستمعون، وكل واحدة تشرد مع الأغنية وتعرف من كلامهن أن قصص حبهن لا تكتمل، وأن الحبيب لكل منهن غائب في حرب 1956 أو في عمل في بلد بعيد، أو خذلها بعد أن وعدها بالجنة الضائعة. تتذكر أسماءهن ووجوههن، وتتساءل أين ذهبن وتستعيد نهاياتهن التي لم تكن في أكثرها جميلة. تتذكر شوارع الإسكندرية وغيرها ليلة حفل أم كلثوم، حين تخلو الشوارع بعد العاشرة مساء من البشر، وتتحول البيوت إلى قاعات استماع جميلة، لكنك عائد متأخرا من السينما ترى قليلا من المقاهي مفتوحة، فيها قليل من الناس يستمعون إلى أم كلثوم شاردين كأنهم من عالم آخر، أي شجن يعيشونه وأي قصص حب ضاعت منهم. الأمر نفسه حين ذهبت وعشت في القاهرة.
أين ذهب الشعب الذي كان متيما بالغناء الجميل يسهر إلى الفجر مع أم كلثوم كل شهر، أو عبد الحليم حافظ، أو فريد الاطرش ليلة شم النسيم وهو يغني أغنية الربيع، التي رغم آلامها تعشقها الأكثرية من الناس. ستقفز النوستالجيا بالحقائق الضائعة وستكون كتابة كتاب عني مع الأغاني بابا للشجن والألم، ليس بحكم العمر فقط، لكن بحكم ما جرى من تغير في بنية المدن وروح الناس والتعليم وحب الفنون، مما انهار أو تواضع أو خرب، وكيف صارت العشوائيات هي معمل السلوك والغناء، وكيف صرنا غرباء في بلادنا.
أجل الأغاني القديمة هي حدائق تتسع بالجمال مهما كانت عن الفرح أو الحب الضائع كتبها شعراء رائعون ولحنها موسيقيون أفذاذ، وصدحت بها أصوات من الجنة. فغير ما يمكن أن يثيره الكتاب من شجن سيفتح عليّ إذا كتبته باب الأسئلة عن تلك الصور الشعرية كيف غابت عن الغناء، فما بالك بالموسيقى، والأمثلة كثيرة جدا بالآلاف. يكفي هنا مثل واحد مثل «صُعُبْ عليّ أنام لحسن أشوف في المنام غير اللي يتنماه قلبي» مما كتبه أحمد رامي لأم كلثوم في أغنية «رق الحبيب» التي لحنها محمد القصبجي، والاثنان عاشا يعشقانها في صمت.
روائي مصري
تم اجتثاث الفن والطرب الاصيل و الموسيقيين المبدعين و لم يعد هناك موسيقار واحدا ولا مطربا متميزا واحدا والفن بكل أنواعه رسم وموسيقى وشعر وغيره هو بداية نهوض اي أمة من الأمة ،يقول فريدريك نيتشه اذا رأيت الفن والموسيقا والادب ينمو في بلد ما فاعلم انه في مرحلة النهوض ،وإذا رأيت الأساطير و الهراطقة يسودون فاعلم انه في مرحلة الانهيار ،بدأت النهضة الاوروبية في إيطاليا مع الفن والرسم ولم تبدأ مع الثورة الصناعية في بريطانيا، فوصول اوروبا إلى عصر التكنولوجيا بدأ تدريجيا وعلى مدار مئات السنين بدأ من إيطاليا في القرون الوسطى ، هناك من حاول تغيير مسار نهضة الشعوب العربية منذ مئة سنة والقضاء على كل من اوجد فضيلة لنفسه شاعر ام كاتب ام موسيقار ام مفكر ام عالم ،فحدث الانفجار الكبير وها هو الآن أمامك ،ونحن لا نعيش بعصر الثورات بمعناها الكلاسيكي حيث المسار الحتمي للثورات هو انتصار الشعوب على حكامها ،نحن نعيش في عصر الانفجار العربي وان نالت الثورات من الحكام فقد نالت من شعوبها ودولها أيضا نتيجة تآمر داخلي او خارجي سيان ،لأن الثورات ان لم تكن محصنة بذاتها وتملك قوة التغيير الجذري بسرعة قياسية دون اضرار بالاوطان التي تحاول النهوض بها لا تسمى ثورة
صدقت… الفن القديم يعيش معنا الي الابد.. ولاحوله ولاقوه الا بالله…
ياسلام.. ياسلام… اذكر عندما حضرنا للقاهرة وفي ذاكرتنا تراث فني مصري غزير.. لكن في إحدي الأمسيات القاهره، وانا اجلس في مقهى التجاره بالموسكي، شعرت أن تاريخ الفن في الزمن الجميل قد عاد، لأن هذه القهوه مخصصه للموسيقيين وأهل الفن، فأنا تخيلت أجد الفنان عبدالحليم، فريد الأرض، هحمد عبدالوهاب وغيره… لكني وجدت الفنان العملاق محرم فؤاد، فهو قمه فنيه عليه.. ياسلاااام..
تصحيح… اقصد الفنان فريد الأطرش، وليس فريد الأرض.. خطأ مطبعي من الكيبورد…
شكرًا أخي إلراهيم عبد المجيد وكل التقدير لهذه النظرة الثاقبة لرؤية وشرح الواقع. أنا ولاأعرف لماذا، أجد نفسي دائمًا استمتع بالأغاني القديمة أمثر من الحديثة، وبالنناسبة لاأحب الموسيقا والغناء الغربي، مع أني من جيل أحدث من هؤلاء المطربين الكبار. أكثر مقطع يؤثر في مشاعري هذه الأيام لأم كلثوم وقد سمعته قبل عدة أسابيع “وكنت أقدر أحب تاني ححبك إنت”.
عذرًا أقصد، “وان كنت …”