تثير «صورة» أهالي غزة كثيراً من المعارك السياسية والثقافية في العالم العربي، بل حتى خارجه. فسواء كانت الصورة لضحايا مدنيين، أو نازحين في مخيمات، صامدين أو متألّمين، فإن السجال يتصاعد حول معنى كل هذا: شعب مقاوم يدفع أثمان حريته؟ أم أضحية بشرية لمغامرات عسكرية غير محسوبة النتائج؟
ربما كان الحاسم في الإجابة على هذا السؤال هو رأي أهل غزة أنفسهم، وكيف يفهمون ويفسّرون ما يتعرّضون له من حرب إبادة، وهل يُحمّلون تنظيمات المقاومة وقادتها جانباً أساسياً من مسؤولية المأساة، أم يعتبرونهم أبطالاً في مواجهة ممارسات الاحتلال، التي طالت معاناتهم منها دون أفق للخلاص.
مجدداً، أثار هذا «حرباً» أخرى على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تقوم على عرض ومشاركة تسجيلات وأقوال، بل حتى منشورات مكتوبة لأفراد من قلب القطاع، يعلنون فيها تأييدهم للمقاومة، أو على العكس، يجاهرون بشتيمة بعض رموزها. بعيداً عن هذه الأساليب، التي لا تثبت أو تنفي شيئاً بالطبع، تندر أي محاولة منهجية، بالحد الأدنى، للإجابة على تلك التساؤلات.
هناك استطلاعات رأي محدودة، أجرتها بعض مراكز الدراسات بين أهل غزة، قبل وأثناء الحرب، إلا أن نتائجها لم تسلم من النقد والتشكيك، خاصة أنها أجريت في ظروف لا تتيح كثيراً من الدقة في الاستقصاء، أما من ناحية نظرية بحتة فيبدو أن هناك ثلاثة منظورات في التعاطي مع المسألة: الأول يمكن تسميته «منظور علاقات القربى» ففصائل المقاومة في النهاية ميليشيات أهلية، مقاتلوها وقادتها ليسوا غريبين عن مجتمعهم، وبالتأكيد تربط عشرات الآلاف من مسلحيها صلات دم مع كل أهالي القطاع، ويعبّرون عن «عقلية» الناس، خاصة أن الروابط العشائرية ما تزال شديدة الحضور في غزة؛ أما المنظور الثاني فهو منظور الهوية بالتأكيد، فالمقاومة تعبير (مباشر وبديهي؟) عن الهوية الدينية والثقافية والاجتماعية للغزّاويين، لدرجة أن نقدها قد يكون نوعاً من العنصرية؛ المنظور الثالث هو المنظور التمثيلي، فقد فازت حركة حماس بانتخابات فلسطينية قبل ثمانية عشر عاماً، ويبدو أن هذا يعني أنها ستفوز بها دائماً، وعلى اختلاف الظروف.
لا يمكن توجيه نقد فعلي تجاه تلك المنظورات، إذ تقوم كلها على افتراض معرفة بـ»طبيعة» المجتمع، غير قائمة على معطيات أو حجج قابلة للقياس الجدي، توصل دوماً إلى خيار أو توجه أحادي للناس، وتهمل عمداً المنظور التعددي في النظر للمجتمعات، بما يشمله من تغيّر الآراء، وكذلك الهوية والعلاقات الاجتماعية، عبر الزمن، ولذلك من الأفضل تجاوزها جميعاً، ومناقشة مفهوم «الرأي السياسي» نفسه، هل يمكننا أن نعرف رأي أهل غزة، أو أي مجتمع عربي آخر، في قضايا الحرب والسياسة حقاً؟ أم ثمّة خطأ في طرح السؤال نفسه؟
الرأي والتهليل
ربما كانت السمة الأساسية لـ»الرأي السياسي» ارتباطه بالقدرة على الاختيار من متعدد في زمان ومكان محدد، بمعنى أنه حتى لو كان هنالك مجتمع، يميل بأغلبيته إلى قضية معينة، مثل المقاومة، أو الرفاه الاقتصادي، أو الحفاظ على الهوية، فإن هذه القضايا العامة لا تصبح سياسة دنيوية، إلا بوجود قوى سياسة تطرح برامج مختلفة لتحقيقها، يتم تداولها عبر آلية ما، تتسم بالشرعية. وهذا الأمر لم يكن حكراً على الدول الديمقراطية «المتقدمة» بل عرف النضال الفلسطيني تاريخياً نظائر له، فـ«البرنامج المرحلي» لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي تضمّن إقامة دولة فلسطينية على أي أرض يمكن تحريرها، والسعي لإقامة دولة ديمقراطية علمانية ثنائية القومية على كامل أرض فلسطين المحتلة، أُقرّ في المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في القاهرة عام 1974، وسط معارضة قوى، على رأسها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كان لها منظور وبرنامج آخر، شكّلت على أساسه ما عرف وقتها بـ»جبهة الرفض»؛ الأمر نفسه بخصوص إقرار مبدأ التسوية السياسية، في مؤتمر المجلس في الجزائر عام 1988.
قد يمكن التفصيل كثيراً في أساليب الهيمنة، أو حتى العنف، التي قد تمارسها قوة سياسة ما، لفرض خياراتها، لكن يبقى أن الرأي السياسي لا يمكن أن يتوضّح دون إجراء وهيكلية معيّنين، يتضمّنان العديد من المؤسسات السياسية والقانونية والإعلامية والتعليمية، التي يمكن عبرها تحديد الآراء المطروحة والممكنة والمقبولة، والمفاضلة بينها، وفرزها عما يُعتبر «متطرفاً» أو «غير وطني» أو حتى «خرافي» و«شعبوي». من جهة أخرى قد ترفض قوى راديكالية الإجراء والهيكلية القائمين، فتحاول إنتاج بدائل عنهما، وربما كانت «المجالس العمالية» التي أقامتها الأحزاب السياسية اليسارية في أوروبا أفضل مثال تاريخي عن ذلك. في كل الأحوال، تقوم قوى منظّمة بإنتاج الخيارات السياسية وطرحها، وهي مطالبة، بوصفها «تنظيمات» بالاتساق في آراءها، من جهة؛ وإثبات أنها لا تفرضها بالعنف المحض، من جهة أخرى، ولو عبر آلية صورية.
لا يمكن مطالبة الأفراد بالأمر نفسه، فهم ليسوا تنظيمات، من مهامها إنتاج الخطاب. ومن البديهي أن آراءهم، في كل الميادين، يمكن أن تتقلّب وتتناقض كثيراً، سواء بسبب الانفعالات المختلفة التي قد تؤثّر عليهم، أو بسبب اضطراب الصورة العامة بالنسبة لهم، وبالتأكيد يمكن رصد كثير من الأفكار التي تعتبر «غير واقعية» أو «متخلّفة» في أوساطهم، وذلك لا يقتصر على مجتمعات المنطقة، بل في أكثر الدول «تطوراً». الإطار السياسي القائم هو ما «يترجم» أصواتهم إلى رموز مقبولة ضمن منظومة السياسة، و»عقلانيتها» الخاصة في شرط زماني ومكاني معيّن. ويمكن القول إن الصراع على تأسيس ذلك الإطار وقواعده، الدستورية والقانونية والإجرائية والأيديولوجية، هو جوهر العمل السياسي والثقافي، وعقدة أساسية للصراع الاجتماعي والطبقي.
في شرط سيطرة الميليشيات، أو الحكومات شديدة القمعية، تتعطل الهياكل والإجراءات، لإنتاج الرأي والخيار السياسي، وتنعدم إمكانية البشر في المشاركة بشؤون دنياهم. يُعوّض ذلك غالباً بمفاهيم يصعب الإمساك بها عن «التفويض» أو «الرضا» بمعنى أن رأي الناس، يصبّ دائماً في خانة تأييد سياسة معينة لا بديل عنها، تقررها قوة متغلّبة بشكل أحادي. مبدئياً يمكن القول إن كلاً من التفويض والرضا ليسا رأياً سياسياً، فما بالك أن يكونا «خياراً» وذلك لأنهما ليسا أكثر من تهليل لأمر واقع، لا يتم وفقاً لأي إجراء يمكن قياسه. وبالعودة لمسألة حرب غزة، فإن تداول المقاطع والمنشورات عما يقوله الناس هناك، هو محاولة لإثبات التهليل من عدمه، ولا علاقة له بـ»الرأي» لكن من أين تأتي مفاهيم التفويض والرضا؟
تغليب «الأغلبية»
مهما بحثنا، لن نجد أي مفهوم منضبط، أو آلية واضحة، للرضا والتفويض، إنهما غالباً مقولات عامة، مبنية على افتراض جوهر أو طبيعة أو روح ما لهوية معيّنة، يدعي مكررّوها أنهم قادرون على النفاذ مباشرة إليها، في «قفزة» ليست روحانية مثلاً، بل مبنية غالباً على قوة الأمر الواقع، ما يجعلها النقيض التام للسياسة، فإذا كانت الأخيرة تقوم على تحويل القضايا العامة إلى برامج ملموسة، يمكن تداولها والاختيار بينها؛ فإن قوة الأمر الواقع تحوّل كل ما هو تفصيل أو مسألة ملموسة إلى عبارات عامة، خاوية فعليّاً من المعنى السياسي.
إلغاء السياسة لم يبدأ مع التسلّط الميليشياوي على بقاع عديدة من المنطقة، بل ربما كان في أساس مفهوم «الشعب» الذي قدّمه نموذج دولة الاستقلال العربية، فذاك «الشعب» وإن كان صاحب السيادة نظرياً، إلا أنه محدد دوماً بهوية أحادية ثابتة، يعيّنها «دين الدولة» وما يتفرّع عنه من «قيم مجتمع» و«أسرة»؛ وكذلك «الطبيعة» القومية واللغوية والثقافية والقيميّة التي يفترض أنها نابعة من روحه، أو تاريخه. بهذا المعنى فأن تكون من «الشعب» يعني أنماطاً محدودة جداً من المعتقد، والأداء الاجتماعي، وإمكانية التعبير، وكل ما سواها يُقصى بعنف، بأشكال تتراوح بين قوانين ازدراء الأديان والآداب العامة، وحتى الإبادات الجماعية المروّعة، التي شهدتها أكثر من دولة عربية.
يخلق كل هذا «أغلبية ثرثارة» إن صح التعبير، أي نظاماً أحادياً للتعبير المقبول، لا خيارات فيه، يسهل أن تكرره الفئات الاجتماعية، المحسوبة على «أغلبية» الدولة القومية/الدينية القائمة، ويقمع كل قول سواه. ورغم كثرة التكرار، فإن ثرثرة «الأغلبية» لا تقول شيئاً فعلياً، لأنها لا تتم في إطار تعددي، يجعل لها قيمة تواصلية. إنها تكرار لعهود إيمان «دين الدولة» بمعناه الواسع، لا أكثر.
اضمحلال الثرثرة
في المجتمعات الممزّقة والمدمّرة، تنتفي حتى إمكانية التكرار والثرثرة، إذ لا تبقى أصلاً كثير من المنابر التي تعطي للبشر إمكانية الكلام، فتحتكر القول مجموعة محدودة، ذات امتياز، من «الناشطين» أي أفراد منبتّي الصلة عن بقايا المجتمعات التي يتكلّمون عنها، تم «تمكينهم» بطريقة ما. إنه نوع من «التفويض» المضاعف: يعوّض الخيار السياسي بالتفويض باسم هوية الأغلبية، وتعوّض «الأغلبية» نفسها بتفويض الناشطين بالتعبير عنها. لا يعني هذا أن الناس، في غزة أو غيرها، ليسوا مع المقاومة ومواجهة الاحتلال، ربما يكون جزء منهم أكثر راديكالية من قادتها، وجزء آخر يجنح للتهدئة، فيما لا يستطيع جزء ثالث أن يحدد «الصواب» وسط كل ما يحدث، فينتقل من شعور لآخر. نحن، بكل بساطة، لا نعرف، ولا يمكن أن نعرف، لأن السؤال المطروح خطأ بالأساس، إذ لا رأي لبشر ضمن استثناء «الأمر الواقع».
كاتب سوري