الأقنعة الغربية للنقد العربي المعاصر

عندما نناقش مرجعية النقد العربي المعاصر، فإننا نستهدف في هذا النقاش التعامل مع جوهر المنهجيات النقدية العربية في تأثرها بالمنهجيات الغربية، والوقوف على جذورها وتشكلاتها وكيف تفاعل معها المجتمع الثقافي الغربي، فالقضية ليست طرح فكر أو فلسفة أو نهج، وإنما في مدى قبول الحياة الثقافية لهذا الطرح، فكم من الأفكار والفلسفات ماتت في مهدها، لأن المجتمع الثقافي لفظها سريعا، وعلى النقيض هناك مذاهب وأفكار تعمقت في تربة الثقافة، وبسقت أشجارها، وأينعت ثمارها.
ومن المهم التوقف لمناقشة كيفية تلقي النقاد العرب للنقد الأدبي الغربي، حتى نرى أصداء ذلك في رؤاهم، وكما هو معتاد في استقبال تيارات وافدة جديدة، فإنها تأتي ما بين الرفض المطلق، والقبول المطلق، والقبول الإيجابي الحذر، الذي يطمح إلى التلاقح الثقافي والاستفادة مما هو جديد على صعيد الأشكال والأساليب الإبداعية ومواكبة حركة الإبداع والنقد العالمية، وهذا التوجه الأخير مثمن ومطلوب.
وعندما نتساءل عن حضور الدين في النقد الأدبي الغربي، فإننا نستهدف أمورا بعينها، أولها المرجعية النظرية، ونعني بها أن المصادر الأولى التي انطلق منها المذهب النقدي في تكوينه الأولي، فهناك مرجعيات فلسفية بحتة، وهناك مرجعيات دينية، ويخطئ الكثيرون عندما لا ينتبهون إلى الحاضنة الأولى للمذهب النقدي، فمنها تنبثق التوجهات والمصطلحات والأطر والإجراءات، حتى لو تكونت فلسفة تعمقه، فإن الحاضنة الأولية يظل لها الفضل الأساسي، ويتجلى هذا في المصطلحات والأبعاد المعرفية. أما ثاني الأمور: فهو الإبداعات المعبرة عن المذهب الأدبي والنقدي، فهي مرآة للحياة الثقافية والاجتماعية في مجتمعها وعصرها، فتنقل للقارئ المعتقد والعادات والتقاليد والانحيازات الفكرية المختلفة للناس في المجتمع المعبر عنه.
وفي هذا الصدد، نلاحظ رصد عدد من النقاد العرب حضور الدين في مرجعيات النقد الأدبي الغربي، فيؤكد شكري عياد على أن الشخصية الأوروبية نتاج للاهوت القديس توما الأكويني، وملاحم العصور الوسطى، بجانب التراث الكنسي نفسه، الذي قام بعمل خارق يتمثل في القوة الدينية الروحية، التي بثها في القبائل الهمجية التي عاشت في أوروبا، وجعلها تؤمن بالمسيحية بوصفها دينا ارتقى بها، وظلت المسيحية بفكرها واستنادها إلى التراث اليهودي (العهد القديم) مؤثرة في تشكيل العقلية الغربية، وصياغة توجهاتها وأفكارها ورموزها وقناعاتها، حتى بعد تبني مفاهيم العلمانية (اللادينية)، فإن الدين لم يخرج من تكوين الإنسان الغربي، حيث جعلوا الدين حقيقة اجتماعية وقلبية، ونأوا به عن الجوانب العلمية والمدنية، بل إن التراث الأدبي الغربي يعود إلى مصدرين أساسيين: الأول: التراث اليوناني الفكري والأدبي (شعرا ودراما)، والثاني: التراث المسيحي في أدب الرومان والعبرانيين والأسلوب التوراتي في سفر التكوين، الذي جاء موازيا للملاحم الكبرى مثل ملحمة هوميروس، في الإلياذة. فلا يمكن تخيل أن النهضة الأدبية الغربية مؤسسة على التراث اليوناني الفلسفي والأدبي فقط، وإنما حضرت نصوص الكتب المقدسة معها، وظهرت في كثير من الأعمال الإبداعية تأليفا واستلهاما.

حضور الدين كان جليا في الانحيازات الخاصة بمنظري المذاهب الأدبية والنقدية، وفي نظرتهم إلى الأديان الأخرى، فهم يعلون من شأن التراث اليهودي الديني، ويتعاطفون بشكل كبير مع اليهود وقضاياهم السياسية.

أما عبد العزيز حمودة فيذهب في مناقشاته للحداثة الأدبية الغربية؛ التي أنتجت المذهبية النقدية الحديثة وتوابعها؛ إلى أن الأسس الثقافية فلسفية بالدرجة الأولى، والضلع الأساسي فيها هو عالم الميتافيزيقا الغربي (الدين المسيحي واليهودي وتصورهم عن الله الخالق)، بجانب أضلاع أخرى مشكلة لها وهي: اللغة، وتكوين الإنسان الغربي وأزماته، والعالم المادي (الفيزيقي) حوله، مع تفاوت في دور كل ضلع من حقبة إلى أخرى، فمرات يشتد النزوع الديني، ومرات يخفت ويتوارى ما أدى في النهاية إلى انشطار ثقافي يشعر به الإنسان الغربي، حينما اكتشف زيف ادعاءات العلمانية والثورة الصناعية في تفسير العالم، وتحقيق المعرفة اليقينية، فبدأ في التفكير في النزعة الدينية مرة أخرى والاحتماء بها، فالمركزية الحضارية الغربية لها أوجه عديدة، ومن الخطأ حصرها في وجه واحد هو الوجه العلماني، بل إن المسيحية حاضرة جنبا إلى جنب مع اللادينية.
وفي جميع الأحوال، كان الدين (المسيحي المستند إلى التراث اليهودي) حاضرا في الأدب والنقد بشكل مباشر في الأعمال الأدبية أو النقدية، أو بشكل غير مباشر؛ من خلال الاعتزاز المبطن بالحضارة الغربية ومنجزاتها الهائلة، بل إن هناك تلاقيا بين النقاد المعاصرين والتيار السياسي ذي المرجعية الدينية، وهو ما يشير إليه إدوارد سعيد: فتكمن في ذلك التشابه المتزايد بين المحافظين الجدد السياسيين الصرحاء، والنقاد الميالين للتدين ممن لا تتيسر، لكلا الفريقين، خصخصة الحياة الاجتماعية والخطاب الثقافي، إلا من خلال الإيمان ببازار شبه ديني وديع الطابع.
على جانب آخر، وهو الأهم، فإن حضور الدين كان جليا في الانحيازات الخاصة بمنظري المذاهب الأدبية والنقدية، وفي نظرتهم إلى الأديان الأخرى، فهم يعلون من شأن التراث اليهودي الديني، ويتعاطفون بشكل كبير مع اليهود وقضاياهم السياسية، خاصة من قبل من يسمون أنفسهم اليمين المسيحي الصهيوني، وينظرون للإسلام نظرة سلبية تصل إلى حد العداء السافر، تأثرا بميراثهم القديم منذ القرون الوسطى، المشرب بالعداء ضد الدولة العثمانية، وفي الوقت نفسه، فإنهم يحتفون بالديانات الشرقية: البوذية والهندوسية والمجوسية في تناقض غير مفهوم، وكأن الهدف غمط الحضارة الإسلامية وثقافتها، وكل ما يتصل بآدابها وتراثها وفنونها.
صحيح أن من المستشرقين من أنصف الميراث العلمي والفكري للثقافة الإسلامية، وحقق الكثير من مخطوطاتها، ولكن السمة الملاحَظة في المجمل تلك الروح الاستعلائية غير المنصفة، شديدة القدح لثقافتنا.

٭ اكاديمي من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكاتب الأديب جمال بركات:

    احبائي
    النقد العربي المعاصر يتم بالهوي وليس بالمنهج والموضوعية
    الغالبية العظمى من النقاد على استعداد لبيع آرائهم النقدية
    هؤلاء مستعدون أن يرفعوا الأدعياء الى السماء مقابل المصالح المادية
    والأدعياء بالفعل يسيطرون و يتصدرون معظم المشهد في حياتنا الأدبية
    وقد قلت قبل ذلك الف مرة في الندوات والإعلام اننا نعيش عصر العصابات الثقافية
    احبائي
    دعوة محبة
    أدعو سيادتكم الى حسن التعليق وآدابه…واحترام بعضنا البعض
    ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
    جمال بركات…رئيس مركز ثقافة الألفية الثالثة

    1. يقول دناهد نعيم:

      أستاذنا الأديب الكبير جمال بركات
      وطننا العربي بصفة عامة ومصر بصفة خاصة لايوجد فيه نقد موضوعي لأن هناك عوامل كثيرة تتحكم في هذا الأمر أهمها من يتحكم في منافذ هذا النقد والجهات التي تستخدم النقاد وتفتح لهم الأبواب….والتي تطلق عليها أنت منذ زمن بعيد العصابات الثقافية….فعن أي نقد نتحدث؟؟؟

إشترك في قائمتنا البريدية