يعد نضال الشمالي أستاذ النقد الأدبي في جامعة البلقاء التطبيقية، من جيل النقاد الأردنيين المعاصرين. وقد استطاع أن يحقق حضوره في ساحة النقد العربي، ذلك من خلال مؤلفاته التي نذكر منها . «الرواية والتاريخ» «قضايا في الرواية الأردنية» «قراءة النص الأدبي- مدخل ومنطلقات» و«الأعمال الكاملة لبدر عبد الحق- جمع ومراجعة ودراسة». ويحاول حوارنا أن يتلمس بعض العلامات الأساسية في فكر وطروحات الشمالي، ورؤيته للموقف النقدي العربي الراهن..
□ بداية ماذا عن الهوية؟
■ تعدد المشارب سُنة باعثة على التأمل والاستغراق، إذ أعيش في ذاكرتي وكينونتي بين ثلاثة ظلال؛ طولكرم التي حُرمت ترابها، والخليج الذي عشت فيه مرابع الطفولة واليفوع فمنحني قيم الحياة وناموسها، والأردن الذي أحمل هويته ويحتضنني ويقدمني في جامعاته ومعاهده ومنتدياته، هذه الذاكرة هي من تمدني بالكينونة اللازمة، وأنطلق عبرها بوصفي ناقداً أكاديمياً يعمل في جامعة البلقاء التطبيقة في عمان، متخصص في السرديات ومناهج النقد الحديث، وقد تعهدتني في هذه التخصص جامعتان هما اليرموك والأردنية.
□ متى بدأت الكتابة، وكيف تشكل الوعي النقدي لديك؟
■ الكتابة فعل واعٍ مكتمل الأركان، فهي من تبدأنا لا نحن من نبدأها، إنها نتيجة حتمية لحالة من الاحتقان المعرفي والتجاذب العلمي تلزمك بالتفاعل مع ما تقرأ وتشعرك بضرورة الكتابة. أما استغراقي في قراءة النصوص الأدبية في مرحلة البكالوريوس وما بعدها فدفعني للتجريب في نقد النصوص، في ظل وجود أساتذة أكفاء كانوا يقحموننا في همومهم العلمية، وأخص منهم عرسان الراميني، نبيل حداد؛ علمني الأول الخطوات الأولى في البحث العلمي، وعلمني الثاني كيف أقرأ الرواية قراءة نقدية فاعلة، تجعل من الرواية شاهداً على واقعنا. ويقع على كاهل الأستاذ المتنور كما نبيل حداد أن يكون صاحب رؤية ومنهج وفراسة، فيستخرج من طلبته أفضل ما لديهم؛ لأنه يتعامل معهم باحثين لا طلبة، من هنا تولدت لديّ الحاجة للكتابة النقدية، فانصرفت عن التفكير بالمحاولات الأدبية إلى الكتابة النقدية بالغة التنظيم، التي تتأبى الانفلات في التعبير والخروج إلى ما هو ذاتي.
□ أغلب النقاد العرب المعروفين بدأوا شعراء أو قصاصين، ثم تحولوا إلى النقد الأدبي، هل ينطبق ذلك على تجربتك الأدبية وما مدى صحة هذه الظاهرة؟
■ لي موقف من هذه الثنائية خضت جدالها مع أستاذي العلامة إحسان عباس – رحمه الله – في معرض قراءتي لسيرته الذاتية «غربة الراعي». مفادها أن الإنسان لا يمكن أن يجمع بين النقد والإبداع على السوية نفسها؛ إذ البدهي أن تتفوق سمة على الأخرى، وسيكولوجية الإبداع القائمة على التحرر والانطلاق تختلف في مكنونها عن سيكولوجية النقد القائم على العقل والمنطق والتراتبية والتأويل، ويحتاج إلى خبرة وحصيلة معرفية واسعة، وذوق مدرب، واطلاع عميق وواسع على النصوص الأدبية وأجناسها، وأحياناً على الناقد أن يكون أخبر بالعمل الأدبي من الأديب نفسه، وكان المتنبي كثيرا ما يحيل مَن يَسأله عن بعض ما أشكل عليه من قوله إلى ابن جني، وهو ناقد شعره والمتعمق فيه، يقول المتنبي «اذهبوا إلى ابن جني؛ فإنه يقول لكم ما أردتُه، وما لم أرده». وفي المقابل قيل للخليل بن أحمد الفراهيدي: «لِم لا تقول الشعر مع علمك به؟ فقال: لأني كالمِسن أشحذ ولا أقطع». والحالات التي تساوت فيها السمتان نادرة جداً، أذكر منها عميد الأدب العربي طه حسين على سبيل المثال، أما في الوضع المألوف والكائن فلا بد من أن تتفوق سمة على الأخرى.
□ يغلب على نقدك الأدبي الجانب التطبيقي المعني بجماليات النص الأدبي، في حين يتجه أغلب النقاد العرب إلى الجانب النظري المعني بدراسة الظواهر الإبداعية العامة، بم تفسر ذلك؟
■ غلبة التنظير على التطبيق إشكالية كُبرى يعاني منه النقد الحديث، وقد فطن إليها محمد غنيمي هلال في كتابه «النقد الأدبي الحديث» وعدها معضلة تواجه تقدم النقد الأدبي، وسببها ميل كثير من النقاد إلى إعادة شرح النظريات النقدية الغربية، كما قرأوها في تصانيفها الأصلية أو المترجمة، دون التأكد من مقدرة هذه النظريات على فعل الإجراء النقدي الناجع الذي يؤتي ثمار قراءة النصوص قراءة نقدية منتجة، من هنا فإن النقد في وجه من وجوهه تنظير، وفي وجوهه الأخرى تطبيق، فالنظرية النقدية أُسست لغايات تطبيقية تمنح النصوص قراءة فاحصة وعميقة، لذا أتوجه في جل دراساتي إلى تطبيق المنهج السردي في نقد النصوص في بنائيتها، والنقد الثقافي والنسوي في تقييم نصوص أخرى ضمن نطاق أفكارها. وحقيقة هذا ما ينتظره الأدب من النقاد بالدرجة الأولى، لإنجاز فعل المواكبة المطلوب لاستمرارية الإبداع الأدبي في أنساقه المتجددة.
□ ما الدائرة الأساسية في حركتك النقدية؟
■ بشكل عام اشتغالي على النقد الحديث يتركز في موضوع السرديات، وهي دائرة خصبة وواسعة، أتحرك من خلالها باتجاه موضوع استدعاء التراث في السرديات لاسيما كيف يجري توظيف التاريخ سردياً، وقد كتبت عدة أبحاث في هذا المجال، أذكر منها كتابي «الرواية والتاريخ» ودراسة بعنوان «السردية التاريخية الحديثة، أرض السواد أنموذجاً» وبحثاً في أدب الرحلات عنوانه» إشكالية الهُوية في رحلة الأمير فخر الدين المعني إلى إيطاليا» وتتوسع اهتماماتي النقدية باتجاه النقد الثقافي والأدب النسوي، ومن مساهمتي النقدية في هذين المجالين دراستي «تمثيلات الذكورة وانعكاساتها في خطاب بدرية البشر القصصي» ودراستي «تمثيلات المثقفة اللامنتمية في الرواية النسوية السعودية» ودراسة أخرى بعنوان «أيديولوجية الإقصاء وإثبات الهوية في مختصر رحلة أفوقاي الأندلسي».
□ كيف تواجه نصاً نقديا؟
■ لا مواجهة مع النصوص الأدبية دون منهج نقدي محدد، مع إيماني بأن كل نص أدبي يفرض المنهجية النقدية الأفضل لتحليله وتفكيكه. في تحليل الروايات والقصص القصيرة، أجد المنهج السردي البنيوي خير معين لي في قراءة النص ضمن أبنيته المعتمدة في مستوى الخطاب، الرؤية والزمن والصيغة والشخصية والمكان، والسرديات علم يتناول قوانين الأدب القصصي صاغه تودوروف وجيرار جينيت، يشتغل على التمييز بين القصة، من حيث هي حكاية، والقصة من حيث هي خطاب، كأننا نميز بين المتن والمبنى. فعلى سبيل المثال أحرص على دراسة الشخصية السردية من حيث خصائصها ووظائفها ضمن النظام السردي، بوصفها كائنات ورقية لا حقيقية ليس لها علاقة مباشرة بالواقع الخارجي. أما شخصية الراوي فلا بد من تحديد موقعها ونمط رؤيتها وصيغ سردها المعتمدة في العمل، وصولاً إلى جوهره، فالشكل لا بد أن يقدم قراءة للمضمون أيضاً.
□ ما هي أبرز الصعوبات التي واجهتك؟
■ بوصفي ناقداً أكاديمياً فإن امتلاك المنهج النقدي شكل عقبة كبيرة أمام عملي ورسالتي في الحياة، فأي تعامل مع النصوص الأدبية لن يكون بالمستوى المطلوب إذا لم يتوسل منهجاً نقدياً يمنحني الرؤية والأدوات الكفيلة بقراءة هذه النصوص ومحاورتها. إن ما يميز الناقد عن القارئ العادي هو امتلاك المنهج، الذي يُطلب من الأول ولا يُطلب من الثاني. وما زاد من صعوبة الأمر، أن جل المناهج النقدية الحديثة مناهج غربية بامتياز تنهض بنظريات فلسفية لا تتوافق كثيراً وواقعنا المعيش، ما يعني الفصل الحتمي بين النظرية والإجراء، كالفصل بين العقل والتفكير. فالتعارض حاصل في موضوع التنظيم المحكوم للعقل، والنظرية معزولة في حكمنا ونقدنا والإجراء حاصل. من هنا تكمن الصعوبة في أن نأخذ من المنهج النقدي الإجراء، ونتجاوز العمق الفلسفي له. فامتلاك المنهج النقدي هو عقبة أمام أي ناقد لا بد أن ينذر لتخطيها الجهد والدربة والمران.
□ ما رأيك في الحركة النقدية في الوطن العربي حالياً؟ وما هي برأيك أبرز التحديات والصعوبات التي تواجه الحركة النقدية والناقد العربي بشكل عام؟
■ يعيش النقد في الوطن العربي حالة من النكران المزمن واهتزاز الثقة والحسابات الخاطئة، رغم اجتهاده وتفانيه وكثافة إنتاجه، ومن نتائج ذلك تأخر الجهد النقدي عن مواكبة المنتج الإبداعي عربياً ومحلياً، بل إن هذا الأمر يستحق أن تُفرد له الندوات والحلقات، وأن تطلق فيه الآراء وتكشف الاعتبارات تحت عنوان «أزمة النقد» أو «أزمة النقاد». والمفارقة تكمن في أن التقدم الهائل في صنعة الكُتب وتوزيعها، وتعدد الصحف وتحبيرها، وانتشار الإذاعات والفضائيات وترويجها، وولادة المواقع الإلكترونية وتنميقها، رافقه خجل نقدي، خلاف ما كان متوقعاً. وهذا يفتح الباب أمام اعتبارات كثيرة قادت إلى مثل هذا الخمول: أبرزها صلابة الدرس النقدي وتناوله، مقابل سلاسة الإبداع الأدبي وتلقيه، مما يفرض رواجاً تلقائياً للنص الأدبي على حساب النص النقدي. هذه الصلابة كان من المفترض أن يذللها الدرس الجامعي الذي تنصل من ذلك عندما قدم النقد الأدبي لطلبته من منطلق تاريخي تنظيري مهملاً التطبيق، وإن طبق فإنه يقتصر على الانطباع دون المنهج. فخرج تبعاً لذلك طلبة متعلمون حافظون، وليسوا نقاداً مثقفين ممحصين. فضلا عن انشغالات الأكاديميين بالدرس الجامعي وأعبائه. وتقصير الجامعات في تبني مشاريعهم ودعم انتماءاتهم الثقافية وإنتاجاتهم النقدية، مع تجاهل لا يخفى من قِبل المنصات الإعلامية لإنتاجهم النقدي وتسليط الضوء عليه.
□ وما علاقة النص الإبداعي بمرجعه الواقعي؟
■ النصوص الإبداعية ذات علاقة وثيقة بواقعها المنتج، وقد أثبتت المناهج النقدية التقليدية (التاريخي، النفسي، الاجتماعي) هذه النظرية، وأنتجت نقداً عميقاً يقرأ في مستواه الظاهر النصوص الإبداعية، ويقرأ المرجع الواقعي لهذه النصوص في مستواها العميق. ألزمت العلاقة بين الأدب ومرجعه الواقعي، أن يعزز النقاد من فهم لهذا الواقع، وصولاً إلى فهم النصوص المتأتية منه، ولا أدل على ذلك من نظرية المحاكاة عند إفلاطون، وعند الفيلسوف هيغل، الذي رأى الفن تجلياً للمحسوس، بمعنى أن الفن تجسيد واقعي للوعي، لكن تبقى المدارس الفلسفية والنقدية متباينة في تأكيد أو نفي علاقة النص الإبداعي بمرجعه الواقعي، وإن كنت أميل في ذلك إلى نظرية الانعكاس، كما قررها المنهج الاجتماعي في النقد، وأميل أيضاً إلى نظرية الفن للمجتمع في توثيق علاقة الإبداع بالواقع.
□ ما هي غاية الكتابة؟ ما علاقتها بالحياة؟ وما هي رسالة المبدع في المجتمع؟
■ تجسيد رؤية الكاتب هي أسمى غايات الكتابة الإبداعية، وهذا التجسيد لا بد أن يمر من بوابة البوح والصدق، ونقل ما يمكن قراءته والارتقاء به عن التفاهة اليومية التي تبثها التكنولوجيا الرقمية، وكثير من صفحات الأدب المسطح. أما علاقة الكتابة بالحياة فعلاقة تبادلية؛ إذ يقدم كل جانب فهمه الخاص عن الآخر، إنها علاقة تأثر وتأثير، والكتابة الحقة هي التي تصف الحياة وتتجاوزها، فعلى سبيل المثال وصف القاص الروسي أنطون تشيخوف الحياة، ولم يتوقف عندها بل تجاوزها لدقائق وتفاصيل لا نلحظها، والروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز فعل ذلك، والسياب ومحمود درويش، كلهم اتخذوا من الحياة نقطة انطلاق إلى عالم أكثر اتساعاً وشمولية. أما رسالة المبدع تجاه مجتمعه فتكون بالارتقاء به جمالياً نحو مستويات العمق والإدراك والتسامح والسمو، إذ لا قيمة لأدب لا يمنحنا عمقاً. أما سطحية الحياة وما تعرضه من مظاهر مزيفة، فالفن إجمالاً يحيل إلى عالم خفي أكثر عمقاً مما نظنه، وعلى المبدع الحق أن يستجيب لخياله وقوة إدراكه وحدسه الذي لا يخيب، وعليه أن يُعلي من قيمة الحياة في نفوس قرائه، ويمارس بأدبه فعل التطهير الذي نادى به أرسطو وجعله رسالة مهمة للأدب في حياتنا، والسبب أن الأدب صانع مُهم من صناع مفاهيم الحياة وترويجها، إنه سوق خصب وثري للأفكار المتناسلة التي يبحث عنها القراء لتحديد فهم أعمق للحياة من حولهم.
نفع الله بك وبعلمك دكتورنا عباراتك وكلماتك تُدَرس
ما شاء الله عليك دكتورنا مبدع ?