الألعوبة الديمقراطية

حجم الخط
3

كلما حلت فترة استحقاقات جديدة ليدلي الشعب العربي برأيه في ما يخص السياسة العامة للبلاد، وجدنا أنفسنا نستعيد الأسطوانة المشروخة ذاتها بلغة واحدة موحدة: غياب النزاهة، تدخل الدولة، عدم الثقة، المقاطعة، وكأن لا شيء يتغير في هذا الوطن. ترى الوجوه والخطابات نفسها تعاود الظهور بالوقاحة نفسها، والجرأة عينها، والانتهازية ذاتها. كنا نتحدث عن تجار الأسلحة، فبات الحديث عن تجار الانتخابات لا يختلف كثيرا عن أولئك. كلاهما يخلق الأزمة في اللحظات السلمية، أو الحربية، ويدعي الإسهام في إطفاء الحرب التي أشعلها، أو إنقاذ البلاد من الكارثة التي أوصلها إليها.
إذا كانت حصيلة عمليات الانتخابات والاستفتاءات في عالمنا العربي خلال السبعينيات والثمانينيات تنتهي دائما بنسب مشاركة تتعدى التسعين في المئة لفائدة النظام القائم، فإنها بدأت تتغير منذ حوالي العقدين. فباتت نسب المشاركة الشعبية هزيلة جدا، كما أصبحت النتائج لا تعكس أبدا ما يرومه النظام. ومع ذلك تجد هذه النتائج التي تعكس الرأي المعارض لتلك الاستحقاقات، من يركب عليها مدعيا أن تلك الصناديق هي التي أوصلته إلى السلطة، ومنحته الشرعية لممارسة ما يرغب فيه ضدا على مصلحة الشعب والوطن.
إن هذا الواقع العربي قديمه وحديثه يعكس أزمة بنيوية بين السلطة والشعب، فالحاكم هو هو كيفما كانت النتائج. فإذا وقع التزوير وكانت النتائج عالية فشرعيته تاريخية. وإذا كانت المقاطعة، ونسبة المشاركة لا تمثل الأغلبية، يظل هو الحاكم ويستمد مشروعيته من صناديق الاقتراع. فمن يتحمل مسؤولية استمرار هذا الواقع المأساوي؟ هل السياسة أم الثقافة؟ هل السلطة أم الشعب؟ هل العقل أم الهوى؟ أم أن الكل مساهم في اللعبة، وكل يلعب كما يريد، دون مراعاة لأي قواعد تبنى عليها هذه اللعبة. إن اللعبة الديمقراطية التي لا تنبني على احترام اللاعب الآخر، والإيمان بالاختلاف، وقبول النتائج كيفما كانت، ليست لعبة، ولكنها ألعوبة المغالبة وفرض الأمر الواقع لضمان استمراره لفائدة الغالب الأزلي.

منذ أن طرحت أسئلة النهضة العربية، وحروب الاستقلال، والمثقفون العرب يفكرون في البدائل التي تخرج الوطن العربي من التأخر التاريخي الذي استشعره منذ الاستعمار.

مع ذلك بدأنا نجد اللعبة آخذة في تحول بطيء، لقد دأبت الشعوب العربية على التصفيق للحاكم كيفما كانت صورته، لأنه كان يمثل قيما مشتركة يحصل بخصوصها إجماع ما، سواء كانت هذه القضية قومية أو وطنية. لكن عقودا من الإلهاء بذاك الإجماع انتهت إلى الطريق المسدود عندما بدأ يتبين أن ذاك الإجماع لم يكن سوى تعلة لإبقاء دار لقمان على حالها، فكانت أحداث الربيع العربي معبرة عن امتلاء الكأس وفيضانها فكانت لغة: كفىǃ دالة على أن الصبر انتهى. لكن عندما انتهى هذا الصبر وجد الشعب نفسه بلا نخبة سياسية قادرة على التفكير وطنيا في القضايا المصيرية التي تهمه، ولا نخبة ثقافية قادرة على طرح السؤال عن البدائل الممكنة للخروج من النفق، فكان أن عادت الألعوبة إلى حركيتها.
منذ أن طرحت أسئلة النهضة العربية، وحروب الاستقلال، والمثقفون العرب يفكرون في البدائل التي تخرج الوطن العربي من التأخر التاريخي الذي استشعره منذ الاستعمار. اختلف المثقفون في فهم هذا الواقع والتعامل معه، فهناك من اصطفوا إلى جانب السلطة وظلوا لسان حالها يبررون سلوكاتها ويتحدثون عن إنجازاتها الثورية، وهؤلاء يجسدون نسبة مهمة من الموظفين الذين استفادوا مما توفره لهم من امتيازات، وما تقدمه لهم من خدمات. وفئة قليلة ظلت في المعارضة وأدت الثمن غاليا، إما بالنفي أو السجن أو التهميش. أما السواد الأعظم فاكتفى بالحياد، فلا هو معها، ولا هو ضدها، ولم يمنعه ذلك من الإسهام وفق المتاح بما يراه من خلال إبداعاته وكتاباته في تناول الواقع من منظور نقدي.
لم ينجح مثقفو السلطة في إنتاج ثقافة يمكن أن تسهم في تطوير الفكر السياسي والاجتماعي، لأن الثقافة التي اشتغلوا بها ظلت تبريرية ودعائية. لذلك ظل الإعلام الكاذب وسيلتهم الخاصة لنشر الأباطيل، أما مثقفو الأحزاب المعارضة، سواء كانت علمانية أو يسارية أو إسلامية، فلم يفلحوا بدورهم في تطوير أفكارهم بما يتجاوب مع ضرورة التحول، فظل جزء منهم ينتظر فرصة الاستفادة مما يمكن أن تسفر عنه عمليات التوافقات السياسية، بينما انعزل القسم الآخر رافضا الانخراط في ما يتعارض مع التربية التي نشأ عليها. أما من سميناهم «المحايدين» فظلوا بمنأى عن الانخراط في اللعبة أو الألعوبة، وكل منشغل بذاته وأحلامه، مقتنعا بأن لا أمل في التغيير، وكان الانتظار سيد الموقف، فهيمن التشاؤم.
إننا نعيش زمنا آخر لا علاقة له بما كان سائدا عندما كانت التناقضات الاجتماعية تقضي بفرض الأمر الواقع بالإكراه والعنف، والإلهاء والإقصاء. تتحمل الأنظمة العربية مسؤولية تهميش الفعل السياسي المعارض والقضاء على إمكانية تشكيل أي نخبة سياسية أو ثقافية مختلفة. كما أن الأحزاب ظلت تفكر بالطريقة التي كانت تفكر بها السلطة، فساهمت في إقصاء المثقفين الذين لا يفكرون بمنطقها الانتهازي. وساهم المثقفون في عزل أنفسهم عن الانخراط والمشاركة لأسباب يرونها وجيهة وغير مكلفة. إن المتضرر في كل هذا هو الوطن.
متى ينتهى زمن الألاعيب السياسوية، ومتى نمارس اللعب الديمقراطي الحقيقي؟

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول إبراهيم بومسهولي المغرب:

    هناك السلطة السياسية وسلطة النص المؤسس. وأخطر أنواع المثقفين من يجعل من النص المؤسس للإمامة العظمى، أي الحكم المطلق،القروسطوي، شيئا إعجازيا مطلقا. يمكن مجابهة المثقف الإنتهازي أما دعاة الإعجاز فهم الضمانة الأبدية لبقاء النظام غير الديموقراطي للأبد. ولله الأمر من قبل ومن بعد. العلمانية هي الحل.

  2. يقول قلم الرصاص:

    ربما اموت و انا لن اتقدم يوما لغرفة اقتراع لأدلي بصوتي ليكون لي رأي

    او اختار حصان سباق للفوز في معركة تباري البرامج الحزبية ما الفائدة

    في ان ادلي بصوتي في ظل ألعوبة الديمقراطية الهباء تحياتي

  3. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي سعيد يقطين. على كل حال الديمقراطية هي ثقافة وليست لعوبة أو لعبة كما أرادتها أو تريدها الأنظمة في بلادنا العربية بالتعاون مع أحزاب تدّعي المعارضة.

إشترك في قائمتنا البريدية