في خلال اشتغالي بالكتابة الإبداعية لسنوات طويلة، كشاعر أو كاتب أو مدرب على الكتابة، أو مجرد قارئ عادي للنصوص، ألتقي أو أتلقى رسائل من كثيرين، يكتبون، ويتخذون ألقابا غير موجودة في أسمائهم، وذلك عشما في مجد أدبي قد يحققه اللقب، إذا تم تداوله. وأظن أن المسألة فيها كثير من حسن الظن، وأعني أن تستخدم لقبا رنانا، من دون أن تتأكد إن كان إبداعك كافيا لملء اللقب أم لا؟ وإن كان اللقب فعلا يشبه الإبداع عندك إن كنت مبدعا أم لا؟ وهكذا.
مسألة اتخاذ الألقاب في الحقل الأدبي، أو تلقيها من معجبين أو نقاد، أو قراء متابعين، واعتمادها، ليس أمرا جديدا في الأدب العربي، ونعرف منذ زمن طويل أن هناك أدباء اشتهروا بها، وكانوا صراحة يملأون تلك الألقاب، ويفيضون. فلا أحد لم يسمع بعميد الأدب العربي طه حسين، أو أمير الشعراء أحمد شوقي، أو شاعر النيل حافظ إبراهيم، وهؤلاء عاشوا حياة أدبية زاهية، وتركوا تراثا كبيرا ما زلنا نتناقله، ونحتفي به، وأيضا يثير كثيرا من الجدل، مثل ما تركه طه حسين.
على أن هناك أدباء كبار أيضا عاشوا وأبدعوا وماتوا، ولم يتخذوا ألقابا رنانة أو غير رنانة، وكانت أسماؤهم فقط كفيلة بتخليدهم، وكان يمكن أن تطلق ألقاب مجيدة على أدباء مثل يحيي حقي وتوفيق الحكيم ومحمد عفيفي مطر وعلي المك ومعاوية محمد نور، وكثيرين جدا في كل البلاد العربية. فالإبداع كما هو معروف ليس مقتصرا على بلد ما، وإنما يتوزع في الدنيا كلها.
حقيقة تابعت كثيرا تاريخ الألقاب الأدبية، ووجدت أن هناك شعراء حتى في العهد الجاهلي، وما بعده، حازوا على ألقاب، مثل الملثم، وذي القرط، وكثيرين لا أتذكرهم، وأيضا ربما لا أعرفهم، وإنما أردت التأكيد على أن بعض الألقاب تتخذ، وتسري وتسافر في الأجيال التي تلي جيل المبدع، وبعضها يموت في مهده.
من ناحية أخرى كانت الألقاب تكثر عند المبدعات من النساء، وأظن أن الأمر كان مجتمعيا، ولا علاقة له بالإبداع، أي إن كانت الشاعرة أو الكاتبة مبدعة حقيقية أم لا. وكانت المجتمعات العربية في ما مضى كما نعرف، أكثر المجتمعات إرهاقا للنساء، ولا تعطي المرأة أي حق لتكتب شعرا أو نثرا من دون أن تتلصص على خيالها، واجتثاث كل زخم إنساني قد يبرق فيه. فالمرأة لا يحق لها أن تتخيل قصيدة في العشق وتكتبها، لأن المجتمع لا يلتفت لخيالها العاشق، وإنما يوثق لعشق غير موجود، يحاربها به. لا يحق لها أن تكتب رواية، لأن الوقائع مهما كانت تخييلية، فهي واقع المرأة في نظر المجتمع.
لذلك دائما ما نجد أسماء مستعارة أو ألقابا في نتاج المرأة، وأظن حتى الآن توجد بعض القيود برغم الانفتاح الكبير، والرقي الذي طال مجتمعاتنا العربية، لكن غالبا هي قيود أسرية خاصة، لنساء يكتبن بأسماء مثل الفراشة الأدبية، أو شمعة الليل، أو شاعرة البادية، وإلى آخر تلك المسميات التي نراها توقع على الشعر والنثر الأدبي في مواقع التواصل الاجتماعي. فالقيود هنا من ابتكار أب أو زوج غير متفهم، قد يسبب الضرر لمستقبل الأسرة إن أبدعت المرأة باسمها.
هناك مسألة أخرى، وهي أن تعجب بكاتب ما، أو شاعر ما، قديم أو حديث وتتخذ من اسمه لقبا لك، وتحاول التنفس في الوسط الأدبي بهذا اللقب، وغالبا لا ينجح مثل هذا السعي، لأن القارئ للإبداع يعرف شخصا واحدا يمتلك الاسم، وغير مستعد لتقبل شخص آخر يلتصق بالاسم بلا مبرر، وأقول بلا مبرر لأن الأمر فعلا بلا مبرر.
أحيانا يطلق النقاد على كاتب اسم كاتب آخر شهير، في إشارة إلى أن هذا الكاتب الجديد يشبه القديم في شيء، أو تميز مثل ما تميز سلفه، وشخصيا لا أحب تلك التسميات، أراها مصادرة ناعمة لإبداع الكاتب الجديد، ولمستقبل اسمه الذي ربما يعبر به إلى عالم أوسع. مثلا لا أحب لقبا مثل ماركيز العرب، أو نجيب محفوظ السودان الذي حاول البعض إلصاقه بالراحل الطيب صالح ولم ينجح وامتلك الطيب لقبا آخر هو عبقري الرواية العربية، كان مناسبا له وامتد إلى معرفة الأجيال اللاحقة.
أعود لتبني الألقاب بصفة شخصية الذي يحدث الآن ما يزال، خاصة عند أشخاص لم تبلغ كتابتهم الحلم بعد، حتى نميز صوتها، وفتوتها، والشارب المعنوي الذي ينمو على وجهها. وهذه ألقاب غير رنانة بالمرة، ولا تحمل أي مستقبل جيد للقب على الأقل، وكنت أشرت منذ أيام إلى رسائل تصلني من واحد يكتب الخواطر، ويسمي نفسه كافكا الزوايا الضيقة.
لقب مثل هذا غير مفهوم أبدا، فنحن نعرف فرانز كافكا جيدا، وكلنا قرأنا روايته «المسخ» في فترة ما، وأيضا نعرف ماذا تعني الزوايا الضيقة، ولكن لا يستطيع أحد أن يربط هذا بهذا، ورأيي الشخصي، إنها مجرد خطرفة بلا معنى وكان أجدى بالكاتب أن يهتم بما يكتبه ويسعى لتجويده، بدلا من اللهاث خلف لقب لن ينتشر أبدا، وقد أخبرته بذلك لكن لا جدوى كما يبدو.
سؤال يتبادر إلى ذهني في هذا السياق: هل يحق لأي مبدع أن يرفض اللقب الذي قد يطلق عليه، حتى لو كان فيه تمجيد له، مثل أن يسمى أحدهم سيد الرواية، أو أمير الشعراء؟
رأيي أن لا يركز المبدع على اللقب الجيد الذي قد يطلق عليه، أي لا يتخذه واجهة يقدم بها نفسه في كل محفل، أو ينتشي حين يسمع أحد يردده أمامه، فالكتابة الإبداعية مهما كانت مجيدة لدى، أحدهم فيها أيضا إخفاق ما، نجاح وإخفاق قد يتلازمان، وجلوس على المقعد العالي والمهم، قد يعقبه قيام مؤقت، أو بلا رجعة.
لنكتب فقط، نكتب من أجل لا شيء كثير، فالمتعة المستخلصة من الكتابة، وحدها تكفي لكي نستمر.
كاتب من السودان
بالنسبة لعبارة الكاتب أمير تاج السر:
/فلا أحد لم يسمع بعميد الأدب العربي طه حسين، أو أمير الشعراء أحمد شوقي، أو شاعر النيل حافظ إبراهيم/… اهـ
كما كتبتُ ردا على مقال صبحي حديدي «لافونتين وماكرون وجلود الدببة» قبل حوالي شهرين، لكن المفارقة العجيبة، فيما يتعلق باللقب المعرَّب «أمير الشعراء» مثلا، تكمن في حقيقة أن أصل اللقب المعتمد في بلاد الغرب كمثل بريطانيا، ألا وهو اللقب Poet Laureate، إنما يشير إلى منح هذا الامتياز (المصطنع، قبل كل شيء) لشاعر أو شاعرة معيَّنَيْن خلال فترة زمنية محددة إلى أن يتم المنح الآخر لشاعر أو شاعرة آخرَيْن، وهكذا دواليك، وهلم جرا..
/للكلام بقية/
/بفئة الكلام/
أما في بلاد العرب، على النقيض من ذلك، فمسألة منح اللقب المقابل، لقب «أمير الشعراء»، لمسألة أبدية لا تسقط بالتقادم بالمطلق، إضافة إلى كونها كذلك مسألة ذكورية بامتياز، فوق كل هذا، تماما كما هي حال الطغاة «العرب» لدى تنصيبهم الإلهي لتسلم مقاليد الحكم الثابت مدى الحياة وما بعدها.. فما إن قرر ثلة من «الشعراء» منح هذا اللقب إلى أحمد شوقي في العام ١٩٢٧، تحديدا، حتى صار هذا الـ«أحمد شوقي» في الوعي (ومن ثم، في اللاوعي) الجمعي «أميرَ الشعراء» إلى أبد الآبدين
المسألة ليست في الألقاب أستاذ أمير تاج السر ، يقول ماكيافيلي في هذا الصدد: «اللقب لا يشرِّف الإنسان المعني، على الإنسان المعني ذاته أن يشرِّف اللقب!»؛
أحيلك إلى ما كتبته الأخت آصال أبسال من ملاحظات هامة عن اللقب الذكوري «أمير الشعراء» ردا على مقال الأخ صبحي حديدي «لافونتين وماكرون» ، وأظن بتاريخ ٢٠ حزيران/يونيو الماض !!!؟؟
النساء، وتقليد ثقافة الأنا، الأوربية، تجعلها وصم مجتمع أي أسرة، بالمجتمع الذكوري، ولا حول ولا قوة إلّا بالله