الألكسو والكتاب العربي

كنت قد وعدت في مقالي المعنون “الببليوغرافيا ثانية” والمنشور في جريدة “القدس العربي” الأسبوعي الغراء يوم الأحد 30 حزيران/يونيو 2019 أني سأُتبع طرحي حول الببليوغرافيا برؤى أخرى تصب في السياق المتعلق بالتنظيم الثقافي صناعة وأرشفة وتصنيفًا وتسويقًا.

لا خلاف في أنّ وجود رؤى موحدة حول أهمية الاستثمار الثقافي والانفتاح الفكري المستقبلي، أمر مهم لا بد من الالتفات إليه كسبيل به نتمكن من تطوير مشهدنا الثقافي العربي راهنا ومستقبلا. وهذا ما ينبغي أن تسهم به بشكل أساس مؤسسات رسمية تمتلك الامكانيات الكافية لمعالجة هذا الأمر، محوّلة تلك الرؤى إلى واقع عملي.

وأرى في مقدمة تلك المؤسسات منظمة الثقافة والتربية والعلوم العربية “الألكسو” التي وضعت في أولويات أهدافها وسياقات عملها وصميم رؤاها تأكيد المبادئ الإنسانية ورفع مستوى الوعي الثقافي كي يقوم بواجبه في متابعة الحضارة العالمية والمشاركة الإيجابية فيها، مع العمل على رفع مستوى الموارد البشرية في البلاد العربية والنهوض بأسباب التطوير الثقافي والعلمي.

ولا مناص أن يرتهن انجاز هذا المبتغى بما تحققه هذه المنظمة من نشاطات ثقافية كانت قد هُيئت لها الأجواء، ورسمت لها الخطط ووضعت لها مناهج، وينبغي أن تكون لها أيضا سياسات محددة ومعلنة، بها تواجه الكساد القرائي والتطرف الفكري اللذين يهددان مستقبلنا الثقافي العربي، وعندها ستتحقق صحوة ثقافية عربية، فيها اهتمام كافٍ بالشرائح المنتجة للثقافة، وبالشكل الذي يؤكد حرص هذه المنظمة على صنع مستقبل ثقافي تحضر فيه تلك الشرائح ــ وخاصة المرأة العربية ــ فاعلا منتجا، لا غنى عنه على مختلف صعد الحياة.

ولمنظمة “الألكسو” أن تساهم أيضا في تمويل الفعاليات الثقافية والتربوية واضعة استراتيجيات استثمارية بها تحقق فرصا للتبادل والتطوير الثقافيين، متعاونة مع جهات تربوية وعلمية عربية كالجامعات ومراكز البحث والمجامع العلمية وهيئات النشر الرسمية بدل أن تكون جهودنا الثقافية مجزأة وعشوائية وموضع تخمين وأخذ ورد، ومد وجزر بلا تنسيق في التبادل التربوي والتعاون العلمي والفكري.

وبهذا يكون التوازن حافزا من حوافز الوعي الذي سيوجه المجتمع وجهة سليمة تؤدي به إلى التقدم، وسيتعزز ذلك كله أكثر بتوحيد جهود “الألكسو” مع منظمات عربية ذات صلة مثل المعهد العربي العالي والمنظمة العربية للترجمة ومعهد التاريخ العربي والمعاهد الثقافية ومراكز التراث العلمي، فضلا عن التبادل الثقافي مع منظمات دولية مشابهة، وبالتنسيق مع منظمة اليونسكو.

ولأن مجتمعاتنا العربية عانت ويلات القهر والاضطهاد طويلا، هي بحاجة إلى تثقيف حثيث ودائم، يعيد لها ثقتها بالمستقبل، ويعمِّق وعي أبنائها بأن القادم لن تصنعه سوى النوايا الصادقة والآمال الكبيرة، وهذا ما تستطيع الثقافة أداءه بشكل فاعل واستشرافي.

ولا شك أنّ الكتاب أحد الطرق الموصلة إلى هذا التصور المستقبلي الداعي لتعميق الوعي العربي وعطائه من كتب ومعاجم وقواميس وموسوعات أدبية أو فلسفية، هي في الأساس محجة القراء، وهي الدليل الثقافي على التحضر والارتقاء. والاهتمام بصناعتها وأرشفتها يقتضي توفير الإمكانات المادية والاستراتيجية الملائمة، كي يكون لها دورها الفاعل في إشاعة القيم والمثل. ومن أهم الاستراتيجيات الثقافية التي ينبغي وضعها في البال هي أن تكون ثقافتنا وأدبنا عالميين.

والسبيل لأن تنتشر كتبنا خارج حدود بلادنا العربية هو أن تتسم بالتميز. وليس التدليل على هذا التميز باليسير بسبب عشوائية النشر وتشتت منافذ التوزيع التي لا تنتظمها خطط أو برامج تجعل الكتاب يصل بشكل منتظم إلى كل مكان في البلاد العربية، ومن ثم المتميز منه إلى خارجها.

ولو افترضنا أننا ضبطنا النشر بآليات محددة وجعلنا عملية التوزيع مقرونة بخطة شاملة، فإن ذلك لن يكون كافيا في التأشير على النوعية الإنتاجية للكتاب العربي، ما لم يقترن النشر والتوزيع بخطط شاملة يمكن لمنظمة “الألكسو” أن تتبناها وتنسق أمر تطبيقها على أرض الواقع مع مؤسسات النشر ودور التوزيع ومراكز الاستقطاب الثقافي من جامعات وهيئات وجمعيات ومنتديات واتحادات، وبشكل يتناسب مع تسويق المطبوعات إلى السوق.

وقد تتخذ تلك التطبيقات صيغة الندوات والجلسات، فيها يتصدى المختصون من نقاد ومثقفين ومنظرين وخبراء للجديد من هذه المطبوعات، مخصصين للمميز منها ما يناسبه، مسلطين الضوء عليها درسا وتدليلا وتحليلا ومقارنة، وعلى وفق برامج محددة، تشخص مميزات المطبوع الفنية والموضوعية، وتؤشر نواحيه الجمالية والفكرية، كما تدلل على عيوبه ونواقصه إن وجدت.

فيحصل المطبوع الذي يشهد له المختصون بالتميز على الدعم الملائم وتُوفر له الدعاية والإشهار اللازمين. واعتمادا على هذه الندوات سيواكب القارئ العربي عموما والباحث والدارس تحديدا ما ينشر في مختلف الاختصاصات، مما تم طبعه ونشره شهريا أو سنويا أولا، وثانيا سيكون على بينة بشكل نوعي من ملامح المطبوعات الجيدة كلا على حدة، وثالثا سيكون متمكنا من معرفة ما في سوق من كتب عربية جديدة، عارفا ما نُشر وعلى طول خارطة الوطن العربي. مع ضرورة وجود وسائل تسويق تضمن لما يُنشر من مطبوعات سهولة التوزيع وانسيابيته، وبحسب مستوى الكتاب وأهميته، ليكون في متناول أيدي القراء جميعهم وبما يلائم توجهاتهم ويتناسب مع إمكانياتهم.

وصحيح أن الكتاب وحده لا يكفي في تحقيق التحرر المجتمعي الذي به ننتزع براثن الأفكار المتطرفة والعادات البالية والممارسات المتخلفة، ونخلص كياننا المستقبلي من وبيل كوارثها، لكنه حين يُدعم بعمل مؤسساتي سيكون له أثره في المدارس والجامعات والمؤسسات كأن تدور حوله المؤتمرات وتنظم الملتقيات وتقدم المحاضرات والندوات التي تجعل أبناء الأمة متواصلين معرفيا وثقافيا مع بعضهم بعضا. وهذا تطلع كبير لا تستطيع انجازه إلا مراكز ومنظمات معنية بالمحافظة على الثقافة ومهتمة بالتعليم والعلوم. ومنها منظمة الثقافة والتربية والعلوم الألكسو ALEXCSO التي للأسف نجد دورها اليوم معطلا، وكأن بينها وبين الواقع العربي واديا كبيرا.

ولنسمح لأنفسنا أن نتساءل أين هذه المنظمة من هموم الطلاب والمثقفين الذين فيهم ــ كما يرى هربرت ماركوزه ــ قوة مدمرة، لا ينبغي أن يستهان في النظر إليهم والتوجه بالخطط لصالحهم، فبهم يمكن أن نحقق التحرر في الوعي حاضرا ومستقبلا. وهذا ما تؤكده الدراسات الاجتماعية التي محورها الإنسان.

ولنضيف إلى تساؤلنا الآنف أسئلة أخرى منها: ما الذي قدمته المنظمة للبحث العلمي والواقع الثقافي؟ ما الاستراتيجيات والبرامج التي وضعتها لكل ميدان من ميادين الثقافة والتربية؟ وهل هناك مواقف ثقافية تبنتها، فجذبت إليها انتباه الباحثين والمهتمين من علماء ومتعلمين وناشئين؟

وإذا أردنا أن نبحث عن انجازات أو مكتسبات حققتها هذه المنظمة، فهل سنجدها قد تركت أثرا على حال الثقافة العربية ووجدت حلولا لمشكلاتها ومنها مشاكل الكتاب وصناعته ومسائل القراءة وأزمة الترويج لها وأمور الثقافة وضرورة أرشفتها والتوثيق للجديد منها؟

المؤسف أن المنظمة صامتة إزاء ذلك كله، وكأن الامر لا يعنيها، وكأن هذا التشرذم في النشر والطبع والتوزيع وفوضى الكتب والتسويق وعمليات الاستنساخ والسطو على ملكيات المؤلفين وحقوقهم في النشر والتوزيع سيظل قائما بلا محاسبة ومن دون قوانين ناجزة تردع المخالفين.

ثم ما الدراسات التي أنجزتها المنظمة احصاء أو استطلاعا فتضامنت بها مع معارض الكتب الدولية والمحلية مزودة إياها بسياسة أو سياسات تأخذ بيد هذه المعارض وتساهم في دعم عملها وتوحيد سعيها في تعريف العالم بالكتاب العربي؟ هل فكرت المنظمة في جدوى وضع خطة شاملة لترجمة كتب عربية بتخصصات معينة إلى أكثر من لغة، مبتغية تعريف القارئ الأجنبي بما وصل إليه الكتاب العربي من مستوى وقيمة ومن خلال ذلك ما وصل إليه العطاء العربي برمته؟ أم أن ما يطبع بلا معايير وما ينشر من دون رقيب هو السبب في غياب رؤية تقييمية نستطيع أن نؤشر من خلالها الجيد من الكتب؟

لماذا يواجه الباحث العربي اليوم شحا في الحصول على المصادر ثم غفلة عما يكون قد طبع من كتب في الحقل الذي يبحث فيه؟ أليست الفهرسة الشاملة للكتب العربية بكل صنوفها المعرفية مفصلا مهما من القضايا المصيرية القومية؟

وأسئلة أخرى وأخرى نطرحها وتُطرح بإلحاح وباستغراب لا يخلوان من ألم، أنَّ دور “الألكسو” غائب عن الميدان الثقافي غيابا شبه تام، فما من تضامن نشهده أو دعم نلمسه إزاء مشاريع لها صلة بهذه المنظمة قبل غيرها، وأولها القرب من عالم الكتاب العربي وهموم صناعته وتسويقه.

* كاتبة عراقية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    بخصوص مُنتَج الكُتب كمُنتج (سلعة) ذو عائد اقتصادي يمكن تداوله في السوق، يا د نادية هناوي أنت من العراق بخصوص عنوان مقال لك في جريدة القدس العربي (الألكسو والكتاب العربي)،

    والعراق كان من ضمن ثلاثي (مصر تكتب، ولبنان تطبع، والعراق يقرأ) قبل 2003،

    ولكن الدولة بعد 2/8/1990 بحجة محاربة حصار الأمم المتحدة الظالم، استخدمت عقلية الهندسة العكسية حتى على الكتاب، كسلعة مُنعت بسبب الحصار،

    فاجتماع عقلية التأميم/السرقة، زد عليها عقلية مجابهة الحصار (التهريب) من جهة أخرى، جعلت هذا الموضوع ثقافة عامة (في العراق يطلق (ثقافة سوق مريدي) للهروب من الخدمة العسكرية، وكل شيء يفرضه النظام البيروقراطي)،

    فلذلك بدون تشخيص الموضوع، كما هو على أرض الواقع في عام 2019، لن يمكن المحافظة على حقوق الإنسان والأسرة والشركة المنتجة، في عهد دولة الجيل الرابع من الثورة الصناعية للآلة (الروبوت)،

    التي أصبح يمكنها (الآلة) حتى إنتاج المادة اللغوية وتدوينها في كتاب أو غيره مثل الإنسان؟!??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية