الألوان والمشترك الإنساني

حجم الخط
3

كان لنا ونحن أطفال أصدقاء مميزين جدا، أذكر منهم «توم سوير» و«جيم هوكينز» و«ريمي»، وآخرون يعرفهم أبناء جيلي جيدا، ولا يزالون يقطنون في أجمل أماكن الذاكرة، محصنين بجماليات عالية، من صنع اليابانيين الذين حوّلوا الأدب العالمي إلى كرتون.
كان سهلا بعد تلك الطفولة الغنية، الرّاقية، الفائقة الجمال أن ندخل عوالم الأدب آمنين، بحثا عن مخترع تلك الشخصيات المدهشة، فتعرّفنا باكرا على مارك توين، وروبرت لويس ستيفنسون، وهيكتور مالو. عشنا طفولة بديعة، عبر المشترك الجميل الذي جمعنا كجيل، وأعتقد لولا تدخل السياسة، وإضافة بعض سمومها إلى أدمغتنا، لكانت أوطاننا بخير، كون البذور الجيدة التي زرعها الأدب والفن فينا في تلك الحقبة كانت ستثمر بما هو أفضل مما نعيشه اليوم. لقد عرفنا باكرا معنى الظلم والشر، وساندنا، بفطرتنا البريئة، الخيرين دائما في حروبهم ضد الأشرار، وباكرا أيضا تشبعنا بأخلاق عالية، وأردنا أن نكون مميزين، مناصرين للحق، محبين للعدالة. كانت تلك طفولتنا، وكان أولئك أصدقاءنا الطيبين، أتذكرهم دائما في مناسبات عدة، وأتساءل ما الذي هب علينا ليقتلع المحصول الجيد لحقبة مثمرة؟
لقد حضرني اليوم بقوة «هاك فين» أو هكلبيري فين» الشخصية السوداء التي اخترعها مارك توين، وجسّدها في طفل مشاغب يصادقه توم سوير، ليشاركه مغامراته، ويمرر فكرة العدالة ورفض التمييز العنصري في طياتها، تلك الصداقة الجميلة التي ألفت بين طفلين لم يريا الفروق بينهما، خاصة تلك الفروق المتعلّقة بالبشرة، التي صنّفت البشرة السوداء في الدرك الأسفل من القيم. لم يكتف مارك توين بنقلنا إلى زمنه، بل أيضا إلى نهر المسيسيبي في مدينة متخيلة في الجنوب الأمريكي، وبالطبع يستحيل على أطفال اليوم أن يعرفوا مناطق كهذه، ولا جزءا مهما من تاريخ أمريكا. لقد كنا جيلا محظوظا، دخل الحياة من خلال بوابة الأدب العالمي، محافظا على جزء كبير من براءته وإنسانيته. لقد أحببنا تلك الصداقة بين الصبي الأبيض والأسود، وبكينا لأجلهما حين تعرّضا لمظالم مشتركة بسببها، بدون أن نعي البعد الإنساني لتعاطفنا، وقفنا الوقفة الصحيحة ضد التمييز العنصري.


اليوم وأنا أقرأ أخبارا غريبة تصلنا من تونس، عن تخصيص حافلات نقل للسود، ومقابر خاصة بهم، اهتزّ كياني كله، خاصّة أن تونس بلد إفريقي، وإفريقيا لؤلؤة سوداء جميلة، أنجبت الألوان كلها، ففيها البياض والسمار والسواد والشمس المشرقة والخضرة البهية وكل أنواع الأزهار. كيف للعنصرية أن تنبثق من عقر إفريقيا من إفريقي تجاه إفريقي؟ طرحت السؤال على بعض أحبتي من الشمال الإفريقي، فكانت إجاباتهم بعيدة عن الطرح الذي أردت الذهاب فيه، فأنا لا أوجّه تهمة لأحد، ولكنني أبحث في المعطى نفسه، وعن مسبباته. ثم أين تقبع العنصرية بالضبط؟ بين السمرة والسّواد وتدرُّجهما؟ في أي مرحلة من السمرة تبدأ مخالب العنصرية في نهش حاملها؟ قبل السواد تماما أو قبل السمرة الداكنة؟ من هؤلاء الذين يوضعون خارج خط الاحترام؟ في إحدى الإجابات التي وصلتني، يقول قائلها :»إنّه الشعور بالخزي لانتصار ذوي البشرة البيضاء على ذوي البشرة البيضاء، حين خسر الحرب، وأصبح أسيرا». ربّما… لكن ألا يجدر بصاحب البشرة السوداء في هذه الحالة، أن يُكِن الكراهية لهذا الأبيض المتعجرف إلى الأبد ويتعامل معه بعنصرية؟

بين السمرة والسواد خيط رفيع من العنصرية، بين البياض والسواد حبل غليظ منها، فاللون قبل اللغة يرسل إشارته للآخر على أنه مختلف، لهذا تنطلق سهام الإنسان البدائي صوب أي غريب يقتحم إقليمه، لكن يُفتَرض أننا لم نعد بدائيين.

لا أستطيع استيعاب الكراهية بين الطرفين، فقد منحني الله بشرة جمعت بين اللونين، وغير ذلك، لم يتسرب إلى ثقافتي هذا التلُّوث، لا من خلال المحيط العائلي، ولا من خارجه، ولعلّ أول عمل فني فتح عينيّ على على حقيقة التمييز العنصري كان من خلال مسلسل «جذور» الذي روى قصّة «كونتا كينتي» ورحلة عذابه منذ ألقي عليه القبض في أدغال إفريقيا إلى أن بيع في سوق النخاسة في أمريكا، حيث عاش في الجحيم مودّعا الجنّة إلى الأبد. على هذا الأساس سأكن الكثير من الامتنان لمارك توين لأنّه زرع فيّ حب الآخر المختلف، قبل أن أعرف بالمشاعر المقيتة التي فرّقت بين البشر ووضعتهم في خانات الكراهية. مارك توين الذي وصف أحد أشخاصه السود بقوله: «كان مليئا بالكرم، والتّعاطف، والبساطة، ورغم أني لم أره منذ نصف قرن، إلا أن رفقته لم تبرحني قط، بحيث أبقاني في حضرته، لأنّه علّمني أن أحبّ جنسه، وبعض صفاته التي تخصه»، لم يكتف بكتابة خطاب مغاير لعصره، بل تخطى الأزمنة، ونحن اليوم أحوج لخطابه أكثر من أي وقت مضى، وأحوج لإخراج النصوص التي حاربت التمييز العنصري، مثل نص نجوى بن شتوان، الذي أجده متفرّدا في مواجهة العنصرية الجديدة المنبعثة من أحقاد ظننا أنها دفنت.
في روايتها «زرايب العبيد» تجاوزت بن شتوان في طرحها فكرة مستوحاة من التاريخ الماضي، ذلك أن روايتها بعد صدورها بأقل من سنة، أعادت ليبيا للواجهة كمعبر لبيع البشر الأفارقة للأثرياء البيض، انطلاقا من زرايب هزت المجتمع العالمي، حيث يهان الإفريقي في عقر داره.
لقد تغيرت الأزمنة والظروف، وحتى مفهوم العرق تغيّر، ولكن العنصرية ظلّت قائمة بنمطيتها القديمة، بحيث حجبت صورة الآخر رغم تعقيداتها وتنوعها، حتى أن تلك النظرة الهزيلة التي تختصر هذا الآخر أسود البشرة تكشف عن خوف دفين منه، فهو في نظره «أقلّ إنسانية، أخلاقه مختلفة وأقرب للسيئة، قد يؤذي، وأقلّ ذكاء»، وكلها صفات مبنية على تصوُّر كاريكاتيري ملفق، تجتمع فيه عدّة أكاذيب، تختصر هشاشة من اختلقها.
لكن العلم يقول إننا نولد جميعا عنصريين، لأن العنصرية مرتبطة بخوف فطري فينا، بإمكانه أن يذوب تماما بمعرفة الآخر، وخلق قانون مشترك يضمن الاحترام للطرفين. فلماذا تستشرس هذه الظاهرة المأساوية في مجتمع ما؟ بين السمرة والسواد خيط رفيع من العنصرية، بين البياض والسواد حبل غليظ منها، فاللون قبل اللغة يرسل إشارته للآخر على أنه مختلف، لهذا تنطلق سهام الإنسان البدائي صوب أي غريب يقتحم إقليمه، لكن يُفتَرض أننا لم نعد بدائيين، وأن عقولنا شكّلتها المعرفة، ما يمكِّننا من السيطرة على أنفسنا. فالعنصرية عادة تبدأ بكلمات بسيطة، ثم تتقدّم بعبارات تتكرّر، وتكتب، أو ترسم على الجدران، ثم على الجسد، ثم تصاغ في قوانين، ثم تتحوّل إلى أداة للموت وإقصاء الآخر تماما. ولعلّ أقرب رواية تختصر هذا التعريف التراتبي للعنصرية، هي الروايات التي تناولت شخصيات ذات بشرة سوداء، مثل روايات الإيرلندي نيغل غراي للنّاشئة، ومنها رواية «الأبيض والأسود» حيث القصّة تتمحور حول عصابة من الأطفال، من ألوان مختلفة، الأبيض والأسود والهندي، وحيث العنصرية تتسرّب إلى قلوبهم من خلال كلمة، يطلقها الكبار، حتى تفترس قلوبهم البريئة.
في الأدب، نجد ما يشفي غليلنا دائما، إن حظينا ببعض التوجيه، فقد كانت القصّة منذ الأزل أقرب طريقة لتهذيب الأخلاق، لهذا لا أدري إن كان صعود العنصرية سببه الابتعاد عن الأدب!

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عادل نصير من تونس:

    شكرا للشاعرة الكاتبة بروين، فهي تتطرّق بسلاسة إلى موضوعات قد تكون غير معهودة. على أنّي أشير إلى أنّ البرلمان التونسي أصدر من مدّة غير بعيدة قانونا يجرّم أي تمييز على أساس اللون أو الجنس أو الدين. وما ينشر عن وضع التونسيّين”السود” . ويبقى أن أشير إلى هذا السهو النحوي:”كان لنا ونحن أطفال أصدقاء مميزين جدا” فالصواب “مميّزون جدّا” لأنّ خبر اسم كان هو “لنا”، وكلّما كان الخبر جارا ومجرورا تقدّم على الاسم. و”مميّزون” نعت ل”أصدقاء”. والمعذرة

  2. يقول عبد الرزاق بالحاج مسعود/ تونس:

    سيدتي.. هل تأكّدت من المعلومة التي وصلتك عن تخصيص حافلات ومقابر خاصة بالسود في تونس؟ أنا أقطن على بعد أمتار من المقبرة التي ورد ذكرها في التقارير الصحفية

  3. يقول سلام عادل(المانيا):

    العنصرية متاصلة في البعض منا,رغم تبجحنا بان بلال الحبشي منا وفينا ورغم ان محمد علي كلاي بطلنا وفخرنا ومع ذلك على الارض الامور لا تشبهها ي موريتانيا الاشياء معروفة باسماءها ولكن من تونس التي ننتظر منها الكثير في هذا الوقت امر محزن وفي الكويت لماذا لم يتم تنصيب الامير سعد العبد الله السالم الصباح الااسبوعا واحد بسبب امه السوداء والامر لا يختلف في كل بلداننا التي يوحد فيها من هم من اصول افريقية فالزواجات المختلطة نادرة جدا معهم ولا زال البعض يناديهم بالاسود كما كان المتنبي مع كافور

إشترك في قائمتنا البريدية