ما لم نصل إلى بناء فلسفة الوعي بالذات، فإن العقل سيظل يتمتع بأوهامه إلى أن يغرب في شفق الأصيل، ذلك أن أفول العقل لا يتحقق إلا بعد خوض تجربة الأوهام، إذ من خلالها تتحدد ماهيته، أي أنطولوجيا العقل، ذلك أن صراع العقل مع الأوهام شبيه بصراع الوجود مع العدم، ومن خلال هذا الصراع يتدخل الفكر ليحرر العقل من سباته الدوغمائي. هكذا يتم بناء النهضة الفكرية على أسس فلسفة الأنوار التي ستعطي انطلاقة الثورات العلمية.
ربما يكون هذا المسار المنطقي هو ما ينقص العقل العربي، ولذلك ظل سجين أوهامه، ما حكم على هذه الأمة أن تعيش كل هذه القرون بدون عقل، وأضحى حال من ينتمي إليها كحال «أهل المدينة الضالة، الذين يعتقدون الشقاء بأنه سعادة، وفي العقل الفعال آراء فاسدة، ويكون رئيسها ممن أوهم بأنه يوحى إليه من غير أن يكون كذلك، ويكون قد استعمل في ذلك التمويهات والمخادعات والغرور» (الفارابي، آراء أهل المدينة الجاهلة، دار المشرق).
وبما أن هذا الرئيس يكون جاهلا، لأنه لم يتذوق نعمة العقل، فإن تدبيره للمدينة الجاهلة رائع، مادام أن هذه المدينة ليست في حاجة إلى تحرير العقل من أوهامه، خاصة أن «المدينة الجاهلة هي التي لم يعرف أهلها السعادة، ولا خطرت ببالهم، وإن أُرشدوا إليها لم يفهموها «(الفاربي، المصدر نفسه).
ذلك أن الرئيس متى افتقد إلى الحكمة، قام بصياغة في سلامة الأبدان واليسار والتمتع باللذات، بل إنه يضطهد الصنائع والعلوم والحكمة، نظرا لافتقاده ملكة العقل، ولذلك لن يقوم بتحويل مدينته الجاهلة إلى مدينة فاضلة. لكن لماذا لا يستطيع؟ هل لأنه لا يملك السلطة والثروة؟ أم لأنه محروم من ملكة العقل؟ ومن أين يأتي العقل إلى الروح إذا كانت الحكمة في المنفى؟
الواقع أن الفارابي قد تكلم بلغة لم تفهم إلى حد الآن في هذا الفضاء المقهور، ولذلك يتم استغلال فلسفته المدنية من قبل تلك الفضاءات المبتهجة، فثمة أثمن حكمة في هذا التراث العقلاني يتم إخضاعها للعبة الأقنعة، وتضليلها بالخطاب الأيديولوجي الذي تمارسه الهيمنة السياسية حين ترفض قول الفارابي في الرؤساء الأفاضل والجهال، ولعل هدير حكمته قد حرك ذلك المجرى الثابت عندما قال «فمتى اتفق في وقت ما إن لم تكن الحكمة جزءا من الرياسة وكانت فيها سائر الشرائط، بقيت المدينة الفاضلة بلا ملك، وكان الرئيس القائم بأمر هذه المدينة ليس بملك، وكانت المدينة تعرض للهلاك. فإن لم يتفق أن يوجد حكيم تضاف الحكمة إليه لم تلبث المدينة بعد مدة أن تملك»(الفارابي، المصدر نفسه). فبأي معنى يمكن أن نفهم هذا الكلام؟ ألا يكون الزمان الذي يفصلنا عن الفارابي قد ضاع خلسة؟ ألا يكون هذا العصر أسوأ من عصره؟ ألم يكن مشروع مدينة السعادة يتوقف على مشروع فلسفة الوعي التاريخي؟ وإلى متى ستظل الحكمة مبعدة والحكيم محروم من الحق في السلطة؟
لم يكن قدر هذه الأسئلة حزينا، بل كانت هي نفسها خائفة من الانصهار حتى الذوبان في النسيان، ما دام أن الفيلسوف الذي سينتزعها من يد النسيان قد اختفى، واختفى معه الخليج والمحيط، وتوقف نهر الحكمة، وأضحى العدم قابلا للترميم، والوجود ينفلت ولا يمكن ترميمه كتلك الأيام الجميلة التي سلبت منا، وكلما أردنا استعادتها يواجهنا حراس العدمية الذين شردوا الفارابي وقاموا بهدم مدينته الفاضلة، وهجروه إلى المدينة الجاهلة، وفرضوا عليه الحراسة الإجبارية إلى أن خضع للطاعة والهيمنة وأطلقوا عليه اسم المقهور، بيد أنه خاطبهم قائلا «أما المضطرون والمقهورون من أهل المدينة الفاضلة، على أفعال الجاهلية، فإن المقهور على فعل شيء لما كان يتأذى بما يفعله من ذلك صارت مواظبته على ما قسر عليه لا تكسبه هيئة نفسانية مضادة للهيئات الفاضلة، فلذلك لا تضره الأفعال التي أكره عليها، لأنه اضطر إلى أن يسكن في مساكن المدينة الجاهلة».
هذه الكلمات ينبغي أن تتسلل خلسة إلى أرواح الأصفياء الذين يعقد عليهم الأمل في تحرير العقل العربي من أوهامه، والمدينة من جهلها، والعمل على بناء نهضة الفكر والثورة العلمية، لأنه كلما تأخرت هذه النهضة، ظل العقل يتمتع بسباته الدوغمائي، والأمة بالانحطاط والصراعات الأيديولوجية، فمن أجل الخروج من هذه الصراعات ينبغي فتح المجال أمام الحوار الفكري والتعدد الثقافي والسياسي، والسعي إلى مجتمع المعرفة والعلم والتقنية. فثورة العقل على أوهامه معناها ثورة الإنسان على نفسه، والرغبة في الحرية بعيدا عن تلك الآراء الفاسدة للعقل والحكمة والسياسة المدنية.
لم نكن نتوقع أن العقل الفعال سينقطع نوره على المعقولات التي هي مصدر العقل والعدل والحكمة لأنه «كيف يفيض عليها الضوء حتى تحصل المعقولات، والإرادة والاختيار والرئيس الأول غير عاقل» إذا لم يكن في وقت من الأوقات يهاجم العقل والعقلانية، ولذلك فإنه يحاصر المدينة الفاضلة وأهلها والسعادة التي تصير لها نفوسهم، بل يدفعهم إلى الشقاء والعدم، أو يجعلهم يتحدثون عن اللذات الحسية، أي المأكول والمشروب والمنكوح والملبوس والمسكون، وهذه هي حال أهل المدينة الجاهلة.
٭ كاتب مغربي
لم أفهم عنوان عزيز الحدادي وعن أي واقع وفي أي زمن أو جغرافية (الأمة العربية ضد الوعي الذاتي) ثم هل هو ينقل أو يتقمّص آراء الفارابي، في المقال أم هو رأي وقراءة عزيز الحدادي لحال الدولة (المملكة المغربية) في عام 2019، لماذا؟
في البداية هل النظام الملكي أم النظام الجمهوري أم حق كرسي وظيفة السلطة مخصص فقط إلى آل البيت من شعب الرّب المُختار، هو ما يمثل دولة حداثة الأمة العربية، عند عزيز الحدادي؟!
والأندلس تمثل المدينة الفاضلة له، التي طرد الأوربي منها المؤمن الآخر (اليهودي والمسلم وغيرهم، لتبقى إسبانيا فقط للمؤمن الكاثوليكي بحجة الحداثة)، فلذلك لغة دولة حداثة ثقافة الأوربي ضد الوعي الذاتي؟!??
??????
أخي س.س.عبد الله إدا تسمح لي برد, أتفهّم جيداً تساؤلاتك,
أظن أن أسلوب السيد عزيز الحدادي عالي الكثافة بما يتناسب مع منهجه التركيبي.
لو بدأنا بالعنوان, كلمة “الأمة العربية” هي نسق مركب, مطلوب من القارئ أن يفككه لا أن يختزله. الأختزال هو محاولة إستنطاق الكلمات فرادى, التفكيك هو إستنباط العلاقات بين المفاهيم. بهدا المنطق, لا يصح ربط مفهوم الأمة هنا بأي “واقع وفي أي زمن أو جغرافية”
هل المقال رأي أو تقمص لرؤية الفارابي ؟ رأيي أننا أمام تحليل مركب, مرة أخرى: رؤية الفارابي وتمثلاتها في الواقع العربي, شروط تحققها, وبما أن سؤال جدوى التحقق قد حُسم ضمناً, فأننا نخلص إلى سؤال: عوائق التحقق, وهدا هو موضوع الشطر الثاني من العنوان (الوعي الداتي)
وبداية جواب: جمود العقل وضع طبيعي لأهل المدينة الضالة,لا المحكوم يثور عليه و لا الحاكم يعرف غيره, الجميع يستلد الوضع كمن ترعرع في الأغلال فصار يحسبها جزءاً من جسمه.
“ألا يكون الزمان الذي يفصلنا عن الفارابي قد ضاع خلسة؟ ما أجمل هدا السؤال, مع ما فيه من المرارة, لأن فيه طعم اليقظة المتطلّبة
ولأن نهر الحكمة لا يفضي إلى رصيف, فأن جواب السؤال غالبا هو سؤال آخر. لمادا تنتصر دائما قوى الجمود ضد إرادة التغيير في تاريخ الفكر العربي ؟
إيدي-جنيف، من وجهة نظري من ينطلق في تفكيره بسؤال التشكيك، هل البيضة أول، أم الدجاجة، لديه مشكلة في فهم الإيمان ومفهوم الخالق بلغة الإسلام.