لست في حاجة إلى القول بأن الأمثال الشعبية هي نتيجة تراكم خبرات بشرية طويلة مرت بآلاف السنين، أو مواقف اشتهرت وصارت مثالا على المكان وأهله. ويظل كتاب أحمد تيمور باشا عن الأمثال الشعبية المصرية، لم يتجاوزه أحد حتى الآن. نحن المثقفين ربما لا نذكر كثيرًا من هذه الأمثال في أحاديثنا العادية، إلا إذا أردنا أن نرتاح بتفسير سلوك شخص سيئ. لكن الأمثال في النهاية نسبية. وطبعا هذه النسبية تزداد الآن بعد أن تداخلت المدن فما كان يقال عن أهل دمياط من بخل، أو الإسكندرية من «جدعنة» أو بورسعيد من «فَشْر» مثلا اختلف لأن هذه المدن الساحلية امتلأت بالنازحين من الريف من محافظات كبيرة تفيض بالسكان مثل المنوفية شمالا وسوهاج جنوبا وبالطبع غيرها.
لقد رأيت في طفولتي كيف كان يفد الصعايدة «أهل الجنوب» إلى الإسكندرية فقراء ويعمل بعضهم في البداية في تلميع الأحذية أو في البناء أو في وكالة الخضر والفاكهة، ثم شيئا فشيئا يتقدم في الحياة فيفتتح له محلا صغيرًا لأي شيء سُرعان ما يتسع ثم يدخل في طائفة التجار الكبار. كان هؤلاء ذلك الوقت وحتى الستينيات عددًا قليلا حتى أن السينما قدمت أفلاما عن الفلاح أو الصعيدي الذي وفد إلى المدينة باعتباره معجزة مثل «شباب امرأة» و«ابن النيل» و«الفتوة» وغيرها. كانت الظاهرة قليلة لكن منذ السبعينيات بدأ غزو المدن يتسع، مع الإهمال الذي جرى على الريف. واتسع ذلك أكثر في الثمانينيات والتسعينيات فتم ترييف المدن كلها. في الزمن القديم كنت أرى الريفي حين يأتي يظل محتفظًا بزيه ولكنته، فزيه علامة عليه لا ينكرها ولكن لكنته لا يستطيع أن يتخلص منها، فهو ليس صغيرا ليتدرب على لكنة أخرى، لكنني كنت أرى أولادهم يرتدون أزياء المدن التي يتعلمون فيها، أولادا أو بنات، ويتحدثون بلهجة بلدنا الإسكندرية فلقد وُلِدوا فيها وعاشوا بين الإسكندريين، وهكذا لا تستطيع أن تفصلهم بسهولة عن أهل الإسكندرية.
أحب أن أكون متفائلا وأقــــول المثل المريح جدا عبر العصور وسبب استـــمرار المصريين في هذه الدنيا «أهــــي ليلة ونهارها صبح» وهو أكثر الأمثال خلودا رغم أنني أعرف أسطورة سيزيف وأراها أمامي وأعرف أن البرابرة في قصيدة كفافيس العظيمة لم يأتوا.
الآن اختلف الوضع وتجد أغلب الشباب يتحدث بلكنته الفلاحية أو الصعيدية، والسبب أن الغالبية في المدينة صارت منهم، والشاب إن ارتدى في بعض الأوقات ملابس المدينة، البدلة مثلا، فهو في المناسبات العامة يعود إلى الجلباب الذي يتميز به. أصبحت المسألة من الصعوبة أن تجد للأمثال مكانا كما كانت من قبل. ورغم أنني قابلت في حياتي كثيرين تنطبق عليهم الأمثال، إلا أنني مع الزمن قابلت غيرهم من المحافظات أو القرى نفسها، لا تنطبق عليهم الأمثال. المثل الشائع عن أسيوط هو البخل والقسوة، لكنني قابلت من أسيوط مثلا شاكر عبد الحميد، ولم يعرف عنه أبدا أنه آذى أحدًا في الحياة، بل هو كريم غاية الكرم، وكثير جدا من الصفات الحلوة. أيضا عرفت من أسيوط الشاعر محمد ابودومة وهو لا يكف عن الضحك مهما بدا إنه غاضب، فسرعان ما تعيده من الغضب كلمة طيبة واحدة. والحمد لله لم أقابل من أسيوط أحدا ينطبق عليه المثل، رغم أنني تقريبا زرت مصر كلها أيام عملي في الثقافة الجماهيرية في وزراة الثقافة. قابلت من الشرقية يوسف إدريس، وكان كريما ببذخ، كما يقال عن أهل الشرقية أنهم عزموا القطارعلى الأكل! وهنا تجد المثل يتحقق. من الغربية قابلت سعيد الكفراوي ومحمد المنسي قنديل وجار النبي الحلو وفريد أبو سعدة والمرحوم الشاعر محمد صالح ولم أرهم يؤذون أحدًا أبدًا ويرمون وراء ظهورهم أي مشاكل يثيرها الآخرون. وأهل الغربية معروفون في الأمثال بطيبتهم فهم يتوسطون الوجه البحري، لم تمر بهم قبائل مرّت بمحافظات قريبة من الإسكندرية مثل محافظة البحيرة، لتترك فيهم بعض عادات البدو ولم يقتربوا من القاهرة لتترك فيهم المدينة بعض علاماتها. لكن هذا الحديث عن الأمثال الذي يتخصص في الأماكن التي صارت متداخلة الآن هو عادة مادة للفكاهة أو الراحة النفسية أمام المشاكل. هذه فائدته الكبيرة.
هناك أمثال عامة لم يتم الاختلاف عليها ولا أظن إنه سيتم الاختلاف عليها، وهي تهتم بالانسان في مجمله وليس بأي بلد ما. وهذه بعضها. في الحب منها مثلا «بصلة المحب خروف» و«ومراية الحب عمياء». «آخد ابن عمي واتغطي بكمي» وهو لا يعني زواج الأقارب، لكن يعني العزوف عن الغني لحاله فالمهم الستر والمودة معا والأخير هذا للأسف يتغير الآن إلى حد كبير، بعد أن أصبحت ضرورة الحياة الزوجية شديدة التكلفة، وكم من قصص حب انتهت لقسوة الواقع وعجز الشباب عن الحصول على بيت صغير. لكن مثلا بعيدا عن الحب مثل «ابن الهبلة يعيش أكتر» لا يزال فعالا وليس بالضرورة التعامي عن مشاكل الحياة الكبرى بالسليقة، لكنها أيضا بالإرادة. يعني الاستهبال وعدم إبداء الرأي في شيء أو الموقف من الخطأ حتى في الحياة البسيطة. كذلك «إذا تصالحت المقشة مع البلاعة الاتنين بقوا جماعة» فربنا يستر علينا منه. وكذلك «تحسبه موسى يطلع فرعون» و«تزرعه يقلعك». أما مثل «لأبوك البصل وأمك التوم منين ليك الريحة الحلوة يا مشؤوم» فأراه لا يزال صالحا للأسف مع تخلف التعليم، الذي يمكن أن يغير من العادات المتوارثة، ومع زيادة الفوضى والعشوائيات وضياع سبل المتعة العادية مثل الحدائق والشوارع والشواطئ، وكذلك أمثال رائعة مثل «إسأل عن الجار قبل الدار» و«جبت الاقرع يونسني قلع الطاقية وخوفني» وهو يُضرب كمثل على من يحتمي بمن هو غير مضمون، أو «يا طالب السَمنة من بز النملة حُرمت عليك التقلية» أو «اللي يربط في رقبته حبل ألف مين يسحبه» طبعا هو عن الجبان في الحق. أو «قالوا للحرامي إحلف قال جالك الفرج» و«المال السايب يعلم السرقة» فما زالت حولنا كل يوم و«اللي مايشوفش من الغربال يبقي أعمى» فكم من فرص ضاعت على الثورات العربية لأنها لم ترَ من بين الزحام عدوها الحقيقي. وكذلك «ما كل من لبس العمة يزينها ولا كل من ركب الحصان خيّال» و«عشمني بالحلق خَرَّمت أنا وداني».
لا حول ولاقوة إلا بالله. كم آذان خُرِّمت ولا حلق يأتي. وفي النهاية قبل أن أقول «تغني مزاميرك لمين يا داوود» أحب أن أكون متفائلا وأقــــول المثل المريح جدا عبر العصور وسبب استـــمرار المصريين في هذه الدنيا «أهــــي ليلة ونهارها صبح» وهو أكثر الأمثال خلودا رغم أنني أعرف أسطورة سيزيف وأراها أمامي وأعرف أن البرابرة الذين انتظرتهم المدينة في قصيدة كفافيس العظيمة لم يأتوا.
٭ روائي مصري
عبدالمجيد دعيت إبراهيما
وكأمة الإبداع قلت حكيما!