من مظاهر تأزم أنظمة الديمقراطية الغربية المستمر منذ أكثر من عقدين أن الحياة السياسية لم تعد تتيح للناخب خيارا فعليا بين مرشحين أو حزبين مختلفين حقا.
فقد تشابه الساسة وتشابهت الأحزاب، واختلطت البرامج (على فرض وجودها) ولم تبق من فوارق تذكر. وإن وجدت فهي فوارق ضئيلة ضآلة لا تسوغ ترجيح مرشح أو حزب على آخر ترجيحا بيّنا. ولهذا صح حكم المراقبين منذ منتصف التسعينيات بأن حزب العمال الجديد في بريطانيا ليس سوى نسخة من حزب المحافظين. وقد أجاد المعلق سايمون جنكينز في تحليل هذه الظاهرة في كتاب اختار له عنوانا بليغا هو «ثاتشر وأبناؤها». وأهم هؤلاء الأبناء السياسيين الحفظة على تركة تاتشر الإيديولوجية هما توني بلير وغوردون براون، مهندسا تحويل حزب العمال حزبا يمينيا لا فرق بينه وبين حزب التوري (المحافظين) إلا في سطحيّ التفاصيل. وقد بكّر الوعي السياسي الشعبي باستبانة هذه الحقيقة، حيث كان المحتجون آنذاك يرفعون أمام 10 داوننغ ستريت لافتات كتب عليها «توري بلير» (وليس توني). على أن ظاهرة اختلاط أنساب الأحزاب وانعدام الخيار الانتخابي هي أرسخ في الولايات المتحدة وأعرق، حيث شاع القول منذ زمن بعيد بأنه لا فارق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي إلا بقدر الفارق بين الكوكاكولا والببسي كولا. ولكن بيل كلنتون، المعجب برونالد ريغان بالغ الإعجاب (!) هو الذي مضى بعملية الخلط هذه إلى غايتها القصوى عن وعي وتصميم.
هذا كلما تعلق الأمر بالسياسات الاجتماعية والاقتصادية عموما. أما المسألة التي يتحد فيها الحزبان الأمريكيان في إجماع بافلوفيّ مزمن، فهي مسألة نصرة إسرائيل ظالمة ومظلومة. ولهذا يجد الأمريكيون العرب والمسلمون اليوم أنفسهم في مأزق محير: لا يستطيعون التصويت لبايدن في رئاسيات هذا العام لأن التصويت له سيكون مكافأة على اشتراكه الفعال في حرب إبادة شعب غزة؛ ولكنهم يعلمون أن عدم التصويت لبايدن يعني المساهمة في تقوية احتمال فوز ترامب.
الذي تفعله إسرائيل منذ تأسيسها إنما يتلخص في صورة قبيحة: دولة مارقة إبهامها على أنفها وهي تلوح بإشارات البذاءة إلى العالم كله مستهزئة بهيئة الأمم مستهترة بقانون الدول
وإذا كانت كراهية بايدن قد خيلت لأحد بعض الأوهام بشأن موقف ترامب من غزة فها إن الرجل قد نطق، بعد خمسة أشهر من المراوغة، ليستحث الإسرائيليين على استكمال حربهم الإبادية ويخاطبهم محرضا: «عليكم إنهاء المشكلة». وترجمتها: أتموا المهمة. أجهزوا عليهم. أبيدوهم عن بكرة أبيهم!
ويتسق موقف ترامب من غزة مع موقفه من أوكرانيا. فقد قال قبل عامين إن الغزو الروسي لأوكرانيا عملية «عبقرية» وقرار «ألمعي»! أما أعضاء الناتو فقد هددهم الشهر الماضي بأنه سيشجع روسيا على فعل أي شيء تريد ضد أي دولة عضو لا تدفع ما عليها من مستحقات! وهو يقصد الدول التي لا تخصص من ناتجها المحلي النسبة المائوية المتفق عليها للإنفاق العسكري.
والواقع أن بين ترامب ونتنياهو شبها كبيرا من حيث تضخم الذات وإدمان الكذب والغدر والهوس بالمصلحة الشخصية إلى حد إشعال الفتن والحروب و«المشي على الجثث». أما أبرز ما يجمع بينهما فهو الاستخفاف بالمبادئ والقوانين وعدم احترام أحد والتعويل في كل شيء على القوة، كأن كلا منهما يلوح إلى العالم بأسره بإشارة اليد البذيئة التي يأتيها النزقون والمعربدون تعبيرا عن الاستهتار والمكابرة والعزة بالإثم. وقد حدث في فترة ما بين الحربين أن السياسي النازي رئيس مجلس شيوخ مدينة دانتزيغ (غدانسك البولندية حاليا) آرثر كارل غرايزر ألقى في مقر عصبة الأمم في جنيف يوم 13 يوليو 1936 خطابا عدوانيا استخف فيه بكل مطالب إبقاء المدينة حرة ووقف شتى أشكال السيطرة النازية عليها، ثم ترك مقعده وقبل أن يغادر القاعة التفت إلى جناح الصحافيين ووضع إبهامه على أنفه، في تلك الإشارة التي يراد بها الاستهزاء والاستهتار. ومعروف أن ستالين قلد هذه الحركة بعد ذلك بأعوام أمام المصورين، في لحظة دعابة نادرة في سيرة هذا الطاغية الذي أمر بقتل عشرات الملايين من البشر دون أن يرف له جفن. وقد كان رد المندوب البريطاني أنثوني إيدن عندما نبهه الصحافيون إلى فعلة غرايزر الشنيعة أن طلب منهم تجاهل هذا الجلف النازي.
وبالمثل، فالذي تفعله إسرائيل منذ تأسيسها إنما يتلخص في صورة قبيحة: دولة مارقة إبهامها على أنفها وهي تضحك وتقهقه وتصفّر في كل حين وتلوح بإشارات البذاءة إلى العالم كله مستهزئة بهيئة الأمم مستهترة بقانون الدول، فلا يجد الغرب ردا سوى تصنّع عدم الانتباه إلى همجية هذا الجلف الصهيوني.
كاتب تونسي