منذ عدة سنوات، استوقفني في أحد الأسواق الشعبية، رجل غالبا تجاوز الثمانين، كان يمشي بوهن رفقة ابنه، وحكى لي ونحن نقف في زحام السوق، متكئين على حائط مغبر، عن رواية ابتدأ كتابتها في عام 1948، ويحكي فيها عن شخوص عايشوا الحرب العالمية الثانية، وتفرعت سيرهم بعد ذلك، وتغيرت مصائرهم، وجاءت أجيال جديدة من نسلهم، لتستلم الحكاية وتسير بها.
أعجبتني الفكرة طبعا، أن تكتب رواية أجيال تبدأ من ذلك الزمان وتصل إلى زماننا، وسألت الرجل عن مكان نشرها، وإن كان بمقدوري الحصول على نسخة منها، لكنه رد بصرامة، إن الرواية لم تنته بعد، وإنه ما زال يكتبها، وحين ينتهي منها، سأجدها مؤكدا.
كان كلاما غريبا أن تبدأ الكتابة وأنت شاب يافع، في زمن بعيد، وتستمر سنوات طويلة حتى تشيخ، ولا ينتهي العمل، وخمنت في ذهني أن الرجل لا يمكن أن يكون كتب تلك الرواية التي حكى لي قصتها، وإنما هي فكرة حلم تراوده منذ صباه، لكنه قطعا لم يكتب شيئا، وحسب خبرتي في مثل هذه الأمور، فإن كثيرين يلتقون بي، يحدثونني عن أعمال كتبوها، لكن لا يزيدون شيئا، والذي كتب بالفعل، يكون غالبا متلهفا لسماع رأي من شخص له علاقة بالكتابة، ويلح في ذلك كثيرا.
قلت للرجل: اعطني فصلا على الأقل لأرى ما كتبت.
رد بصرامة وبصوت أعلى من طاقة العمر: لم أخبرك بالأمر من أجل أن تقرأ شيئا من الرواية، أخبرتك فقط لتعلم أنني كاتب روائي، ولا شيء آخر.
انتهت قصة ذلك الشيخ الحالم، وتركته يتمشى في السوق بخطواته الواهنة، وذهبت في طريقي، ومرت حوالي سبع سنوات، لم أسمع بروايته، وظللت أبحث على الرغم من اقتناعي بأنها غير موجودة، أو غير مكتوبة، بلا جدوى.
ما أعاد تلك القصة إلى ذهني، هو قراءتي خبرا عن مسن أمريكي تجاوز المئة عام، اسمه إدغار موران، نشر رواية مؤخرا، اسمها «ألسنة فقدت ربيعها»، كان قد كتبها عام 1946، ولم يقم بنشرها في ذلك الوقت لمحتواها الحساس كما يقول، وإنها قد تؤذي آخرين كانوا يحيطون بالكاتب، أي أن الرواية هي سيرة حياة في الغالب، شملت أهل الكاتب وأصدقاءه، وربما فيها نساء عشقهن، ولم يرد أن تظهر سيرهن في رواية.
يقول الكاتب إنه ترك تلك الرواية كل تلك السنوات، وعاد ليعمل عليها من جديد، ويضيف ويحذف، بعد أن رحل كثير من شخوصها، خاصة والديه اللذين خاف من جرح إحساسهما، وكانت مثل هذه الأخلاق الكتابية في الغرب موجودة في ذلك الزمان، حيث يكاد أدب السيرة يكون ملتزما إلى حد ما، ولا يتعدى حدودا معينة، مثلما يحدث عندنا الآن، فإن الكاتب يفكر مرات عديدة قبل أن يكتب بصدق عن طفولته وحياته عموما وسط أسرة قد لا تكون مثالية، وفيها كثير من النواقص، وأي كتابة بالقطع تسيء إلى أفراد فيها.
لكن الغرب تجاوز تلك الأمور الآن، وأصبحت الكتابة حرة، وأحيانا عديمة الذوق حين تحرج أشخاصا أحياء ما يزالون، ويمكنهم أن يقرأوا ويستاءوا وحتى يسخطوا، وممكن أن يلجأوا للقضاء، إن كان ثمة كتابة عن الشرف أو الأخلاق.
أول ما لفت نظري في موضوع رواية إدغار، هو العنوان، فهو عنوان شاعري يشبه كثيرا عناوين النصوص الروائية الآن، ولا يمكن أن يخطر على بال رجل تجاوز المئة، ذلك باعتبار أن العنوان الأصلي كان مختلفا ويشبه عناوين الأربعينيات الكلاسيكية، «ألسنة فقدت ربيعها»، عنوان جاذب فعلا، ولافت. الشيء الآخر، لماذا لم يكتب إدغار روايات أخرى طوال هذه السنوات، ما دام اهتدى إلى سكة الكتابة، روايات خيالية لا علاقة لها بوالديه أو أصدقائه، وكان الأدب في الفترة التي بدأ فيها، مزدهرا في الغرب، وكتابة الرواية، تعود بالشهرة وشيء من المال؟
لا أعرف حقيقة، ولم يذكر في الخبر، مدى ثقافة الرجل أو شغفه بأي شيء، وفقط ما ذكر عن تلك الرواية، التي عاشت حوالي ثمانين عاما، لا أدري في أي خزانة، وما هو الورق الذي صمد من دون أن يتفتت، أيضا ما هي تلك الأفكار التي حملتها، وظلت صالحة للنشر مع شيء من التعديل؟ بالنسبة لعدم وجود أعمال أخرى، هذا ممكن طبعا، وعندنا أمثلة كثيرة عن كتاب، لم يكتبوا سوى نص وحيد، نال شهرة كبيرة، ولم يكرروا التجربة لأسباب تخصهم، نتحدث دائما عن نص «موبي ديك»، أو نص لسالينجر، وآخرين، وحين نشرت روايتي الأولى الصغيرة «كرمكول» في دار الغد، التي كان يملكها الشاعر المصري الراحل كمال عبد الحليم، نشر معنا عامل في الغزل والنسيج، رواية طويلة نسيت اسمها، لكنها كانت سيرة حياة، لا أظنه كتب بعدها شيئا.
أعود الآن وأتمنى لو كان الرجل الذي التقيته، ما زال موجودا، ليمسك بالأمل الذي أمسك به إدغار موران، ويكمل، أو يكتب روايته التي لم يذكر لي اسمها، لكن أحداثها تدور في الإسكندرية في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، ربما جلست معه، وحكيت له تجربة المسن الأمريكي، وربما خرج للناس نص مليء بالحكايات القديمة، الممتعة.
في النهاية، الكتابة شغف، هذا مؤكد، ولكن الشغف قد يكون مستمرا، كما في حالة معظم المبدعين، وقد يكون مؤقتا، يأتي مبكرا أو متأخرا، لذلك لا يمكن وضع قانون يمنع الناس من الكتابة في سن متأخرة، أو حثهم على الكتابة مبكرا، وكنت مرة تحدثت عن إمكانية إحالة الكتاب إلى التقاعد بعد سن معينة منعا للكتابة المخرفة، التي قد تأتي، لكن اتضح أن ذلك غير ممكن، هناك من يتوقف طوعا، ومن يستمر حتى الرمق الأخير.
كاتب سوداني