في البداية أود أن أشير إلى أن انتقاد الحكومات العربية لا يعني انتقاد الشعوب، ومن أراد أن يخلط بين الحاكم والشعب ويعتبر انتقاد الحاكم موجهاً للشعوب، فهذا غير مقبول ويذكّر بمقولة انتهت منذ زمن «أنا الدولة والدولة أنا».
لقد كشفت حرب الإبادة على غزة هشاشة النظام العربي بشكل عام، ودور الدولة الوظيفية المكلفة بدور مرسوم لها، لا تخرج عنه إلا في البيانات والخطوات المسرحية، مع بعض الاستثناءات القليلة جدا. أنظمة عربية لم تستطع إدخال قارورة ماء لقطاع غزة المحاصر المجوع المدمر، بينما تستمر في علاقاتها مع الكيان، فلم تسحب السفراء، ولم تغلق الممثليات، ولم يتوقف تعاون تلك الدول مع الكيان الصهيوني بأشكال مختلفة لا نريد تعدادها الآن.
كشفت حرب الإبادة على غزة هشاشة النظام العربي، ودور الدولة الوظيفية المكلفة بدور مرسوم لها، لا تخرج عنه إلا في البيانات والخطوات المسرحية، مع بعض الاستثناءات القليلة جدا
لكنني أريد أن أركز على مصر، الدولة الأهم ذات الثقل التاريخي والثقافي والقومي والديني وما تعرض له أمنها القومي من خروقات كبرى في العقد الأخير، أدت إلى دحرجة مصر ودورها إلى أسفل السلم قياسا لدول المنطقة الكبرى والمتوسطة، التي لعبت وما تزال تلعب أدوارا محورية، سلبا وإيجابا، وبالتحديد السعودية وإيران وتركيا وإسرائيل وإثيوبيا. وأود أن أضيف أن هناك دولة خليجية تلعب دورا خطيرا ومحوريا أكبر بكثير من حجمها، ولها علاقة مباشرة بكل التصدعات والاختراقات الصهيونية للمنطقة العربية، خاصة ما أصاب مصر من انتهاكات لأمنها القومي.
لقد تعرضت مصر في العقد الأخير لمجموعة من المطبات والخروقات أضعفت مكانتها وهمشت دورها، وغاب تأثيرها، خاصة في حرب الإبادة على غزة ووصولها إلى هذا الوضع المأساوي، الذي لا يليق بمصر ولا بتاريخها ولا بحضارتها ولا بمبدعيها ولا بقادتها العظام، الذين سطروا بدمائهم أروع البطولات ورفعوا اسم مصر والعرب. وأمرّ على أهم تلك الاختراقات:
أولا- جزيرتا تيران وصنافير، من مياه إقليمية إلى مياه دولية
يوم 8 أبريل 2016 قام الملك السعودي سلمان بزيارة رسمية لمصر، تم فيها الاتفاق على «إعادة الجزيرتين إلى ملكية السعودية مقابل 15 مليار دولار»، حيث بدا للكثيرين أن العملية صفقة بيع وشراء لا علاقة لها بإعادة أراض لأصحابها الأصليين، وإلا فالمستعمِل للأراضي هو الذي يجب أن يدفع للمالك الأصلي مقابل الاستخدام لمدة طويلة. خرجت مظاهرات في القاهرة، وتقدم أكثر من ناشط ومحام بدعوى قضائية ضد الدولة لإبطال هذه الصفقة. وربح المحامي خالد علي الدعوى القضائية أمام محكمة القضاء الإداري، التي حكمت ببطلان اتفاقية إعادة الجزيرتين. إلا أن الحكومة عادت وقضت ببطلان قرار محكمة القضاء الإداري، عن طريق محكمة الأمور المستعجلة في أكتوبر 2016، باعتباره تدخلا في شؤون السلطة التنفيذية. في الأول من يوليو 2017 انتقلت ملكية جزيرتي تيران وصنافير على مدخل خليج العقبة من مصر إلى السعودية، وبالتالي أصبحت مياه خليج العقبة مياها دولية مقسومة بين دولتين، وينتهي وصف مدخل المضيق بأنه مياه إقليمية تابعة لمصر، تقرر من يدخلها أو يخرج منها، توافق أو لا توافق على مرور ما تشاء من البواخر التجارية والسفن الضخمة، ويصبح الممر المائي مياها دولية تنطبق عليه مجموعة من قوانين جديدة، لا تتحكم فيها أي من السعودية أو مصر. مضائق تيران التي سببت حرب عام 1967 عندما قررت مصر إغلاقها في وجه الملاحة الإسرائيلية، يتم تغيير ملكيتها للسعودية، كمقدمة لتسهيل التطبيع الذي كان يتم ترتيبه خلف الكواليس آنذاك، وما زالت تفاصيله قيد البحث والإعلان عنه مسألة وقت فقط.
ثانيا ـ سد النهضة الإثيوبي.. الأمن المائي
أما سد النهضة الإثيوبي فقد أقامت مصر ضجة كبرى حول إصرار إثيوبيا على ملء السد في مرحلته الأولى في يوليو 2020 رغم اعتراض مصر والسودان، ورغم اليمين الذي حلفه آبي أحمد أمام الرئيس السيسي في يونيو 2018 بألا يضر مصر. استنجدت مصر بالاتحاد الافريقي والولايات المتحدة ومجلس الأمن الدولي للتدخل لتعطيل ملء السد باعتباره تهديدا للأمن القومي المصري، إلا أن كل الجهود فشلت. انتهت كل مراحل تعبئة السد، ودون ضجة أو احتفالات وسكت النظام على الموضوع ولم يعد موضوعا مطروحا لا في الاتحاد الافريقي ولا مجلس الأمن الدولي ولا بين الدول الثلاث. قدمت المجموعة العربية مشروع قرار ضعيفا ورخوا، لعله يحظى بتأييد غالبية الأعضاء في مجلس الأمن «يحث إثيوبيا على الامتناع عن مواصلة ملء خزان سد النهضة من جانب واحد». لكن المجلس لم يتقبل فكرة إصدار قرار بل اعتمد في سبتمبر 2021 بيانا رئاسيا بالإجماع يدعو فيه إلى استئناف المفاوضات تحت مظلة الاتحاد الافريقي، وأغلق الستار على موضوع السد دوليا وأفريقيا ومحليا وما يمثله من تهديد للأمن القومي المصري.
ثالثا- الحرب الأهلية في السودان
كان بإمكان مصر أن تمنع انفصال جنوب السودان عن السودان، لو تصرفت بحزم وقوة أيام الرئيس مبارك. إلا أن الانكفاء المصري سهل عملية الانفصال، ما يؤثر على البعد الاستراتيجي لدولة مصر في عمقها الأفريقي، خاصة في السودان الذي كان جزءا من مصر. وعندما انطلقت ثورة الشعب السوداني في 19 ديسمبر 2018 ضد اللواء عمر البشير، الذي كان مطلوبا للمحكمة الجنائية الدولية، وقفت مصر مع القوات المسلحة وأيدت مواقفها، سواء بالإطاحة بالبشير أو الانقلاب على المكون المدني من قيادة المرحلة الانتقالية التي كان يمثلها عبد الله حمدوك. كان هناك تعاون بين القوات المسلحة المصرية والقوات المسلحة السودانية في كل المجالات، خاصة في مجال التدريب والتسليح والتعاون العسكري. إلا أن مصر لم تكن قادرة على التأثير في الأحداث، وملأت هذا الدور الإمارات العربية المتحدة التي دفعت باتجاه الانقسام الحاصل الآن، والحرب الأهلية والمجاعة والتهجير القسري. دخلت الحرب الأهلية في السودان في أبريل الماضي عامها الثاني بين قوات الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف باسم «حميدتي» دون أن يكون لمصر أي دور حقيقي. فقد انسحبت القوات المصرية الموجودة في السودان وانتقلت الوساطة إلى السعودية، أما دعم المتحاربين فتتقاسمه روسيا والإمارات، وتبقى مصر خارج اللعبة في منطقة حيوية بالنسبة لأمنها القومي، حتى لو دعت لمؤتمر للحوار لا يصدر عنه شيء.
رابعا ـ حرب الإبادة على غزة وانتهاك اتفاقية السلام
إن ما جرى ويجري في غزة، بوابة مصر إلى بلاد الشام وآسيا، أثبت غياب دور مصر الاستراتيجي. فهشاشة هذا الدور انكشف أكثر بعد قيام الكيان الصهيوني بإغلاق معبر رفح والسيطرة على محور فيلادلفيا الذي يشكل انتهاكا صارخا لاتفاقية كامب ديفيد. حتى العسكري المصري عبد الله رمضان عشري الذي استشهد برصاص إسرائيلي تم التعتيم على استشهاده، ولم يذكر اسمه ولم يمنح جنازة عسكرية.. أي هوان أكبر من هذا؟
الغريب أن مؤتمر القمة العربي الإسلامي الذي عقد في الرياض بتاريخ 11 نوفمبر 2023 دعا في بيانه الختامي إلى كسر الحصار. وقبل أن يجف حبر البيان الختامي أعلن وزير الخارجية سامح شكري أن إدخال المساعدات لا يمكن أن يتم إلا بالتنسيق مع الكيان. ومن الغريب أيضا أن تستغل بعض الشركات المصرية المدعومة من القوات المسلحة، الأوضاع المأساوية على معبر رفح (قبل إغلاقة بشكل أحادي) للتكسب المالي. كيف يمكن لمصر الكبيرة و»أم الدنيا» أن تتساهل في أمور أمنها الاستراتيجي وتسمح لدول عديدة في المنطقة التطاول عليها وتقزيم دورها؟ هذا ما لا نقبل به انطلاقا من وعينا القومي الذي تشكل مع الزمن بفضل ما تعلمناه على أيادي قادة الفكر والسياسة والثقافة والفن في «المحروسة».
*محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي