تحتاج منطقتنا اليوم إلى مفكرين وسياسيين بارزين مثل الأمير شكيب أرسلان، أكثر من أي وقت مضى. ففي هذه الفترة التي تتصاعد فيها المشكلات في العالم العربي، فإن نقص الأدباء والكتّاب والشخصيات السياسية الجريئة يؤدي إلى عدم حل المشكلات القائمة. وفي مرحلة انهيار الإمبراطورية العثمانية، كانت مواقف الأمير شكيب أرسلان أمام الكتّاب والسياسيين الغربيين في جنيف ولوزان وباريس ولندن جديرا بالتقدير حقا.
يجب أن يكون موقف الأمير شكيب أرسلان ضد القادة الصهاينة الأوائل مثل حاييم وايزمان ودافيد بن غوريون، مثالاً وقدوة لجميع السياسيين في يومنا الحالي. في عام 1930، أعرب حاييم وايزمان عن رغبته في مناقشة قضية فلسطين مع الأمير شكيب، بواسطة مدير مدرسة إنجليزية موجود في جنيف يدعى السيد أوليفر. إلا أن الأمير شكيب وزميله إحسان الجابري، أبلغا السيد أوليفر أنه من المستحيل مقابلة وايزمان وأن المطالب الصهيونية لا يمكن قبولها من قبل العرب. وقال الأمير شكيب: «إذا كان هناك شخص ما بين العرب يقبل مطالب الصهاينة فنحن نقف ضده». وعلى إثر ذلك، اضطر أوليفر للمغادرة بمشاعر من الغضب والإحباط.
كان الصهاينة يراقبون عن كثب أنشطة المؤتمر السوري الفلسطيني في جنيف بقيادة الأمير شكيب أرسلان وإحسان الجابري. وبعد عدة سنوات، وتحديدا في عام 1934، وجد دافيد بن غوريون طريقة للقاء أرسلان والجابري وعرض عليهما خطة لتوطين ملايين اليهود في فلسطين مقابل مساعدات مالية للدول العربية. وفي وقت لاحق، تحدث الأمير شكيب عن هذا الموقف في مقال له قائلا: «جاءنا بن غوريون ومعه ترجمان فرنسي وطلب مواجهتنا نحن الاثنين وأتانا بنغمة عالية بأنه لابدَّ من تهويد فلسطين، رضينا أم أبينا، وأنَّ إنجلترا لا تقدر أن تمنع ذلك، وإنما هم يريدون أن يكون ذلك بالاتفاق معنا، بدلاً من أن يكون بالرغم منا، فكان نصيب بن غوريون الجواب بالتهكم، الذي يستحقه كلامه، وقلنا له: سترى أنت وقومك والإنجليز أيضا أنَّ الأمة العربية لم تمت ولن تموت وأنَّ مشروعكم هذا خيال في خيال».
يحتاج العالم العربي إلى مثقفين وسياسيين يظهرون مثل هذا الموقف المشرف في قلب العواصم الغربية. ويجب أن نظهر للغرب أن سياسة العصا والجزرة لم تعد مجدية
ويضيف الأمير شكيب: «بعد أيام قلائل جاء مايناس، مدير الجامعة العبرية، فطلب مقابلتنا وأن يأتي لزيارتنا في بيوتنا فاعتذرنا عن قبوله في بيوتنا بمناسبة ضيق الوقت، وعينا له مقهى نشرب فيه الشاي بعد الظهر، واسمه مقهى جنين، وذهبنا إلى المقهى واستصبحنا الأستاذ إميل الخوري، الكاتب المشهور، بحيث كنا نحن الثلاثة فتكلّم مايناس هذا بكل تؤدة وأدب، والتمس معرفة رأينا في ما يقال عن تقسيم فلسطين؟ فأجبناه بأننا لا نوافق على ذلك قطعيا، فسأل عما إذا كان يمكن عمل هدنة إلى مدّة معيّنة: عشر سنوات؟ فقلنا له: وهل تستمر الهجرة؟ فقال: على مقدار زيادة مواليد العرب، فسدّدنا عليه باب الكلام وحولنا الحديث عمدا حتى لا نخوض معه في اقتراحات كهذه، فانصرف قاطعا كل أمل من فائدة الكلام معنا. هذا ما جرى أولاً وثانيا بالحرف».
وتابع: «فإن كان عند اليهود والإنكليز وأذنابهم من العرب، الذين يخدمونهم بصورة ظاهرها الوطنية العربية وباطنها خدمة الأجانب، دسيسة جديدة يريدون حياكتها فإنَّنا نبشرهم بأنَّ هذه الدسيسة لن تصيب من النجاح أكثر من مكيدة المكتوب المزوّر… وإنَّنا لا نخشى أحدا على وجه الأرض ما دام هناك شيء يقال له حقيقة تقصم ظهر كلّ من عاندها. وإن كان ثمة شخصية عربية لم نعلم بها قد دخلت في مفاوضة مع اليهود في جنيف فعلى راوي هذا الخبر أن يصرّح باسمها كما قلنا، ولكننا لا نعتقد في وجود شخصية عربية دخلت مفاوضة كهذه مع اليهود في جنيف، بل نعتقد في وجود جواسيس يستعملهم».
بدوره يذكر دافيد بن غوريون في كتابه «محادثاتي مع القادة العرب» تفاصيل عن هذا اللقاء، مشيراً إلى أن أرسلان كان يتمتع بمواقف صارمة ورفض تماماً التعاون مع الصهيونية. كما يشير إلى أن أرسلان كان يعتقد أن السياسات البريطانية في فلسطين تهدف إلى جعل اليهود في موقع الأغلبية، وأنه في حال تحقق ذلك، فإن العرب سوف ينتهون.
في المحصلة؛ يحتاج العالم العربي في هذه الأوقات العصيبة التي يمر بها إلى مثقفين وسياسيين يظهرون مثل هذا الموقف المشرف في قلب العواصم الغربية. ويجب أن نظهر للغرب أن سياسة العصا والجزرة لم تعد مجدية. لا شك أن الشخصيات التي تتبنى هذا الموقف ستواجه اتهامات وافتراءات من قبل العملاء الذي يصولون ويجولون بيننا. ولكن في نهاية المطاف، سيكون النصر لأبناء هذه الأرض الحقيقيين. وكما هو معلوم، تعرض شكيب أرسلان لاتهامات من قبل البريطانيين والصهاينة وقادة العرب المتعاونين معهم بأنه يروج للفاشية والنازية على الرغم من موقفه الوطني.
كاتب تركي