مُنذ عدة أسابيع، ولا حديث عَبْر وسائل الإعلام المُختلفة، إلا عن وَبَاءِ كورونا، الذي بدأ في الصين. وأصاب الاقتصاد العالمي بنكسة، لم يكن بحاجة إليها، بعدما بدأ يتعافى. وفي الوقت الذي تقوم فيه مختبرات الأدوية العالمية، بالعمل ليلا نهارا لإيجاد اللقاح الناجِع لهذا الوباء، تفتقت أذهان البعض في بلادنا العربية، عن أدوية ووصفات لهذا الوباء. انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، كالنار في الهشيم. وكلها وصفات لا تنفع، إلا تُجَّار الأعْشاب، والعطارين، وبائعي الخضار والفاكهة. وقد نُسِب بعضها إلى الأجْداد من الأطباء الأفذاذ، وهم منها براء. كونهم كانوا سباقين قبل بقية الشعوب والأمم، في إيجاد حلول وعلاجات للأوبئة، وفق قواعد علمية مُنْضبطة، لا تختلف كثيرا عما يقوم به الأطباء في عصرنا الحاضر.
إذ يظنُ كثيرون، ممن لهم باعٌ في العطارة، أن هذه الوصفات المأخوذة من طيات الكتب مُطابقة لوصفات الأطباء الأجداد. وفي اعتقادي أنهم بعيدون كل البُعْد عن جادة الصواب. لكون الوصفات التي في كتب الطب والأدوية، والسهلة التحضير ظاهريا من حيث طبيعة موادها، فإنها مخصصة أساسا للعارفين بالطب، وأسس الصيدلة الذين يجيدون وحدهم طرق وقواعد تحضيرها. وأن في ذلك ظلما لذلك الرعيل من الأطباء، الذين كانت وصفاتهم الطبية، قائمة على أسس وقواعد علمية، ومعرفة بطبيعة الأمراض، ومَنْشَئِها. وأسباب حدوثها، ومعرفة أيضا بكيفية العلاج بها، التي كانت قائمة أساسا على الأمزجة، والطبائع، والأخلاط. والأهم من كل ذلك، هو أن الصيادلة كانوا يستخلصون من تلك المواد والنباتات، زيوتا، وسوائل، ومساحيق، عن طريق الغلي، أو التصعيد، أو التخمير. وكلها أمور معروفة لديهم صفتها تبعا للنبات، ولطبيعة المرض. ومن ثم يقومون بخلطلها مع مواد أخرى بمقادير جد دقيقة. وإضافة مواد حافظة، أو ملطفة لطعمها. لتباع بعدها على شكل سُفوف، أو أشربة، أو مَرَاهِم (دُهون). أو يصبونها في قوالب خاصة، فتصبح مشابهة لحبات الدواء التي نعرفها اليوم.
كثيرون اليوم وعن حسن ظن، أو لفرط جهلهم بمستوى الطب والطبابة، عند ذلك الرعيل من الأطباء الأفذاذ. يظنون أن الطبيب حينها، كان ممن يجلسون على قارعة الطريق، كما يحدث في بعض المدن أو القرى النائية. وأمَامَه كُوَمٌ وأكياسٌ من الأعشاب، والزجاجات المَمْلوءَة بالسوائل، والمَرَاهِم. أو أنه كان يحمل كيسا، أو مِحْفظة جلدية، حوت ما يُحْيي العظام وهي رميم. ويشبه ما عرفناه يومًا عن «الحلاق». الذي كان يطوف القرى النائية، والأحياء الشعبية، حاملا مِحْفظته، ويقوم بقَصِّ الشعر، وقلع الأسنان والأضراس، وأيضا بعملية الطهور للصغار. وأحيانا بالحِجَامَةِ، أو ما كان يُطلق عليه «كاسات الهَوَاء». وهو أمر مُضْحك مُبْك في نفس الوقت…! لأن الذين يفكرون بهذه الطريقة، فاتهم المعرفة أن الطب كان منظما جدًا. وكانت له مدارسه الخاصة، ومناهجه التعليمية، واختباراته العملية والنظرية. وكان للأطباء عياداتهم. وإلا ما كان ليتقدم على أيديهم. ويأتي الطلاب من أقاصي البلاد، وأصقاع العالم، لدراسته في مدارسنا. ودون الخوض في تنظيم مهنة الطب والطبابة، فإننا سوف نحصر الحديث في الأوبئة، وكيفة تعاطيهم معها.
العدوى من الوباء
بين أيدينا رسالة، من تأليف رئيس الأطباء، وشيخهم في القسطنطينية، مؤرخة عام 1247 ﻫ./ 1831 م.. باللغة التركية القديمة (العثمانية)، وقد تمَّت ترجمتها في تونس إلى العربية. وهي مُرْسلة إلى رئيس الأطباء في حاضِرة تونس المحروسة. وتتحدث عن ظهور وباءٍ فتاك، لم يكن من الأنواع المعروفة لديهم. وهذه الرسالة توفر علينا عناء البحث في طيات الكتب ومكنوناتها، لكي نتعرف على كيفية تعاطي المسؤولين عن الجهاز الطبي مع الأوبئة، والمصابين بها، وسبل علاجها حينها. والرسالة مؤلفة من أربع ورقات (ثمان صفحات، الأخيرة بيضاء). ومُقسمة إلى ثلاثة أبواب:
الأول: خاص بوصف الوباء الجديد، وأعراضه، وتأثيراته، ومضاعفاته؛
الثاني: في كيفية الوقاية، والاحتراز منه؛
الثالث: كيفية العلاج منه، والأدوية والأغذية المفيدة في ذلك.
لقد كان الأطباء العرب والمسلمون، يُراقبون ما يدور حولهم. وما يحدث من ظواهر طبيعية لها تأثيرها على الإنسان وصحته، والحياة بشكل عام. بمنهجية متأنية دقيقة، وبصيرة. فتوصلوا من خلال كل ذلك، إلى فهم كثير من الظواهر الطبيعية. التي تكون لها انعكاساتها على الإنسان وصحته، وتُسَبِّب له الأمراض. فتوصلوا إلى أن البيئة والمحيط عاملان فعالان في ظهور الأوبئة والأمراض. وكانوا أول من تنبه أيضًا إلى تغيرات طبائع فصول السنة. وتأثير ذلك على صحة الإنسان. كأن يكون الصيف ممطرا، ورطبا، أو الشتاء على غير المعهود. مما يُسبِّب بالتالي الأوبئة والأمراض. فكانوا أول من شخّص موجات الرشح الموسمي le grippe، وأسبابه، وإصابته لمجموعة كبيرة من الأفراد في آن معا. وعن ذلك يقول الطبيبُ الحَاذق عليٌ بنُ عَبَّاس المَجُوسيّ ، « فأما خُروجُ الهواءِ عن الاعْتدال في جُمْلة جَوْهَره فهو أن يَسْتحيل في جَوْهره وفي كَيْفِياتِه إلى الفساد والعَفَن فيُحدث في الناس أمْراضًا وأعْراضًا رَدِيئة وسَيِّئة كثيرة في حالٍ واحدة… [ فيظهر على الجسم] الَأوْجاعُ والعَرَقُ الكثيرُ وبَرْدُ الأطراف وحرارة في الصَّدْر وجَفافُ اللسان وبُخْرٌ في الفم وعَطش…». (كامل الصناعة الطبية، ج. 1، ص. 168).
وأَجْمعوا على أن العَدْوى بالوَبَاءِ، قد تُصيب أجساما دون أخرى. وذلك تبعا لطبيعة الجسم وقوته، وضَعْفه، وتوازن الأخلاط، والأمْزِجة فيه. وهي أمور كانت تُشكل بالنسبة لهم، ما يُطلق عليه اليوم « جهاز المناعة ». وقد أفاض الطبيب، والوزير الأندلسي، لِسَانُ الدِّينِ بنُ الخطيب (713 – 776 / 1313 – 1374) في الحديث عن الوَباء والعَدْوى، في رسالة له أسماها « مُقْنِعة السَّائِل في المَرَضِ الهَائِل ». حيث لاحظ أنَّ النجاة من الوباء تكون في الابتعاد عن المُصابين به ومُخالطتهم. لِيؤكد في النهاية أن ذلك خاص بعدة أوبئة وأمراض، دون غيرها.
سبل العلاج ووسائله
لم يكن العلاج من الأوبئة يتم بشكل عشوائي، أو كما يتصور البعض «بالبركة». بل ما إن يحُلُّ الوباءُ ضيفا ثقيلا على البلاد والعباد، حتى يغدو شغل الدولة الشاغل. وذلك منذ أن تمَّ تنظيم الدواوين، والمِهَن. وبالأخص تنظيم صَنْعة الطب، ومدارسها، وتعليمها، ونظام التفتيش الخاص بها (الحِسْبَة). فكان يتم التعاطي معه، وكما يتضح من خلال الرسالة التي بين أيدينا، على مستويين:
الأول: ويكون على مستوى أجهزة الدولة. إذ ما إن تلوح في الأفق بوادر ظهور الوباء، وتظهر بعض حالاته. حتى يأخذ الولاة بالكتابة لشيخ الأطباء. الذي يبادر بإصدار أوامره إلى رؤساء الأطباء في المدن، والأمْصار القريبة، والبعيدة. عبر رسائل ممهورة بختمه، يطلب منهم فيها، أخذ الحِيطةِ والحَذر. وتنبيه الناس، ونُصْحِهِم باللجوءِ إلى تدبير صحتهم، وتقوية أبدانهم. ويُرسل أيضا برسائل إلى المُحْتسبين. يأمرهم فيها بتشديد الرَّقابة على الجهاز الطبي، المؤلف من: أطباء، وبيمارستانات (المستفيات)، وصيادلة، وعطارين، وعشابين. والصرامة في مراقبتهم. وكذلك بمراقبة الأسواق. وضبط أمور نظافتها، ورفع القِمَامَةِ، والمُخَلفات منها وتَدْخينِها. ويُرْسل برسائل أخرى إلى القُضاة، والمُفْتين. طالبا منهم توجيه خُطباء المساجد، لكي يكون وَعْظهم، وإرشادهم، موجهًا لتنبيه الناس بأخذ الحِيطة والحذر، والعناية بصحتهم…
الثاني: وهو طبي علاجي. وينقسم بدوره إلى قسمين:
أحدهما: وقائي، ويتعلق بمحيط الإنسان، ومسكنه. فكانوا ينصحون بتهوية البيوت، وفتح نوافذها لكي تدخلها الشمس باستمرار. وهو ما يؤكده الطبيب جَبْرَئيل بن بَخْتَيَشوع بقوله: « إنَّ كل بيت لا تدخله الشمس يكون وَبيئا». ويأمرون أيضا بتطييبها بأنواع البُخور المختلفة، لمُمَيِّزات في روائحها الطيبة، والمُفْرحة. وكذلك بتدخينها ببعض الأدخنة الخاصة، التي لها دور تعْقيمي. وتستخدم في الفترات التي تنتشر فيها الأوبئة. وهي عبارة عن تَوْليفة مُركبة من أعشاب، ونباتات، كأوراق الآس، والحناء، والعرعار، وغيرها… يضاف إليها مواد أخرى، مثل: القطران، والكبريت، والزرنيخ… وكانت تركيباتهم للأدخنة والبخور كثيرة وجد معقدة، وتختلف من بلد لآخر. وقد ألف الطبيب الفيلسوف يعقوب بن إسحاق الكندي، كتابا خاصا في الموضوع أسماه «رسالة في الأبْخِرة المُصْلِحَة للجَوِّ منَ الأوْباء». هذا في الوقت الذي يأمرون فيه بالابتعاد عن استخدام المياه الراكدة، والاهتمام في اختيار أنواع الأغذية التي يتناولونها، وبطهيها جيدا، وترك الأغذية الثقيلة على المعدة والتي تتسبب بالتخمة، لأن ذلك ينعكس على الجسم، فتقل قوته في دفع المرض، والوباء. ويأمرون أيضا ببعض الأغذية، التي لها آثارها الإيجابية وتعدل الأخلاط، والأمزجة. وتساعد على مقاومة الأوبئة. مثل: لحوم الطيور الطازجة، والحساء، والعدس، وخبز البر، والعسل، الخ… والإكثار أيضا من ماء الشعير، وعصائر الفاكهة. كعصير الرمان، والسِّكنْجَبين (عبارة عن خل وعسل)، والليمون المُقَرْقَف، أو المُزَعْتر، أو بزيت النعناع.
والآخر: علاجي، ويركز بادئ ذي بدء على إحداث توازن واعتدال في داخل الجسم. وذلك بإخراج العُفونات، والفضلات الضارة، من أخلاط رديئة، وأغذية مُتكومة في داخل الأمعاء. وذلك عن طريق الاسْتِفْراغات. كالإِسْهال، والتقيُؤ، والرياضة، والفِصَاد، والحِجَامَة الدَّمَوِيَّة، لأن بقاءَها يُسبب ضعفا في مقاومة الجسم. ويُسهِّل قابليته للأمراض، والأوبئة. ولم يكتفوا بهذا القدر. بل كان لهم السبق في إيجاد أدوية مركبة نافعة للأوبئة التي كانت تطرأ. منها ما قام به الطبيب المَقْدسي محمد بن أحمد التميمي حيث وضع دواءً مُرَكبًا يقي من كثير من الأوبئة على شكل سُعُوطٍ. وآخر يتم إحْراقه لتدخين البيوت والأسواق وتعقيمها.
*كاتب وباحث لبناني يقيم في باريس
شكراً على المعلومات التأريخية القيمة! كم هي مظلومة الخلافة العثمانية؟ ولا حول ولا قوة الا بالله