عمر الأونروا، المنظمة الأممية المختصة بإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، هو تقريباً عمر النكبة الفلسطينية (أُسست في العام 1948 مع بداية مأساة اللاجئين إلى دول الطوق)، ورغم الدور الكبير الذي لعبته في تقديم الخدمات والمساعدات للاجئين ظلّت هي علامة ذلّهم.
لقد كانت البديل الهزيل عن البلاد، كانت تقزيماً لكل شيء، الناس الذين كانوا يسرحون في حقول فلسطين الشاسعة باتوا يتدافعون الآن للحصول على حفنةٍ من طحينِ إعاشتها ومعلّباتها وسمنها ومختلف أشيائها، كانت رمزاً لقسوة العالم، كانت هي في الواجهة، مثل زوجة أب، وتستحق كل لعناتنا وغضبنا، مهما قدّمتْ لنا، مدعيةً الرأفة بنا والترفّق بأحوال عيشنا. كانت هي ممثلة العالم العفن، الذي سلب منا جنّتنا بيد، فيما يعطينا باليد الأخرى نتفاً لا تذكر من حقّنا. لا أعرف أحداً كتب قصيدة حب في الأونروا، لا أعرف أحداً كتب قصيدة حب في مديح زوجة الأب، هذه التي حتى لو صدف أنها رؤومٌ وبنتُ أصول سيظل اسمها زوجة الأب، ومن غير اللائق أن تقدم لها ورود الحب، أو حتى ورود الطاعة. مع أنها كانت في الواقع أكثر من زوجة أب، على الأقل كانت البيت، والمدرسة، والمستوصف، وحتى المطبخ.
كان أبناء المخيم يتندّرون، عندما يعرّفون عن أحد أبناء المخيمات بالقول: أليست سمنة الإعاشة ساطعة على جبهته! وعلى الرغم منا أصبحت مفردات مطعم الأونروا شكلاً من «مادلين دو بروست»، الطعوم البعيدة في الذاكرة، الحاضرة بقوة، ولا سبيل إليها بعد. بعد الخيام التي زرعتْها الأونروا في العديد من المواقع التي صار اسمها مخيمات، في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، بَنَتْ مكعبات إسمنتية أكثر رأفة، أخذت شكلاً وقياساً واحداً على مدّ البصر، الأبواب والشبابيك جاءت كذلك، وحتى الألوان غالباً ما كان الأزرق طاغياً، لون السلام والاطمئنان العالمي المنشود.
حتى اليوم لا يمكن ألا يشدك بقوة شباكٌ أو بابُ قريب الشبه، وقد حدث بالفعل أن مرّ شيء مماثل في بيوت قديمة هنا في أوروبا، فمن البديهي أن النموذج الذي اعتمدتْه الأونروا مأخوذ من هنا في الأساس.
أما مدارس الأونروا فهذه وحدها كفاية. أذكر أن جيراننا من السوريين كانوا يبذلون جهداً (غير قانوني في الغالب) لدخولها، لأنها كانت الأفضل من حيث الأداء ومستوى التعليم، مع أن المنهاج المعتمد هو نفس منهاج المدارس السورية (إذا تحدثنا عن الشق السوري من عمل الأونروا)، ومع ذلك، مع أن أساتذتها يبدون اليوم، من كل هذه المسافة، أشبه بآباء لنا، فقد كانوا قساة آنذاك بما يكفي لنكره كل هذه الكتلة الإسمنتية المتجاورة، مجموعة المدارس والمطاعم والمستوصفات.
كانوا قساة حقاً، لا أنسى مدرّس اللغة العربية أبو عدنان العمري، وتهديداته الهوجاء، وأبو عبدالله، أستاذ الرياضيات القصير الأشيب الصارم، الذي كان يستخدم حرف المسطرة الطويلة للضرب على قفا اليد، كان ابتكاراً مؤلماً فريداً، أي والله.
كانوا قساة بحيث كنا نصحو صباحاً، وندعو الله أن يتدهور باص الأساتذة، أن يموتوا جميعاً، أن تنهدّ مدرسة الوكالة برمتها، وبصراحة؛ لم تستطع الأيام أن تدفع المرء للتسامح مع أساليبهم. وما عندي شك أن المنظمة الأممية لم تكن تأمرهم بذلك. الصحبة ورفقة الدرب مع الأونروا لم تكن هادئة، كما يطمح لونُ علمها وشعارها الأزرق، سرعان ما كان الغضب يتفجر، ولطالما رُشق موكب أممي هنا أو هناك، أو رُشقت المدارس وشبابيكها بالحجارة، وخرّبت المقاعد الخشبية بحفر الأسماء عليها بالأظافر القاسية وبالأقلام وما أتيح من الأدوات، لكن كيف كانت حياتنا لتكون من دونها، كيف كنا سنتدبّر الأمر! أزمة الأونروا الأخيرة، هذا الهجوم المرعب والظالم من أمم الأرض الكبرى التي تكالبت عليها لشطبها، يعلمنا أن الوكالة الأممية ليست ممثلاً للعالم، ليست بديلاً عنه. مؤمن حقاً بأن هذه المنظمة، وسواها من منظمات الأمم المتحدة، لطالما احتوت على أكثر الناس نبلاً ورأفة، لكن لا شك أن أكثر الأفعال النبيلة لا يفصح عن نفسه، وهذا جزء من نبله، لا تقول تلك المنظمات أي كوارث كان يمكن أن تحلّ لولا تدخّلها، لن يعرف أحد بعظمة تدخّلها لأن الكارثة لم تحدث. لن يقول لك أحد شكراً لأنك سددتَ ثقباً في الجدار، فهو لن يراه، لم يعد الثقب موجوداً أصلاً. وإذا عرفنا خصوصاً أن بعض الإسرائيليين يجهدون بقوة لشطب الأونروا، وليس فقط بسبب اثني عشر موظفاً خرجوا عن قوانين العمل، بل لأن مجرد وجود المنظمة يعني أن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين قائمة.
و«لاجئون» تعني أن هناك محتلاً، مشكلة لن تحلّ إلا برفع يد المحتل عن البلاد، وبعودة اللاجئ إلى بيته. جاء الوقت لنعترف باليد الرؤوم للأونروا، التي حرصتْ على الدوام، رغم شقاوتنا، أن تكون أماً، لا زوجة أب.
لنعترف كذلك أنها كانت بيتنا المتجدد الدافئ، منذ أكثر من سبعين عاماً، وستظل، يجب أن تظلّ، إلى أن نعود إلى البيت.
٭ كاتب من أسرة تحرير «القدس العربي»