■ يعود آخر تعاون جمع المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي والممثّل روبير دينيرو، إلى عام 1996 في فيلم «كازينو» تحديداً، وقبله كانا قد تعاونا في 7 أفلام أخرى أوّلها «الشوارع الوضيعة» 1973.
يعود الثنائي الآن، في فيلم «الأيرلندي» وهو عمل ضخم، كما ينضاف إليهما جو بيشي، الذي رافق دينيرو في أفلام سكورسيزي، «الثور الهائج» (1980)، «أصدقاء طيّبون» (1990)، «كازينو» (1995)، «الأيرلندي» (2019)، كما ينضمّ آل باتشينو الى هذه الكوكبة للمرة الأولى، وعدا باتشينو فلم يكن حضور بيشي ودينيرو في أفلامهم أمام كاميرات مخرجين آخرين بقوّته نفسها في أفلام سكورسيزي، فبين هذه المجموعة هناك كيمياء غريبة، جعلتهم يحقّقون أفلاما تعدّها أهم قوائم الأفلام ضمن أهم ما أنتج في القرن الماضي. وها هم الآن يضيفون تحفة أخرى إلى تاريخهم المشترك. ورغم اختلاف «الأيرلندي» عن «الشوارع الوضيعة» و»رفقة طيّبة» أو «كازينو» أو «المغادرون» فهو تحية لها. الفيلم فيه عصارة سينما سكورسيزي، تحديدا هذه الأفلام التي صنعت اسمه، وكرّسته كواحد من أهم من وقفوا خلف الكاميرا.
في أوّل مشهد من الفيلم، تقطع الكاميرا المسافة بين باب دار رعاية المسنين ومكان تواجد فانك شرين في دور لروبير دينيرو، ثم تواجهه وتتوقّف عن حركتها. فيبدأ بالكلام تلقائيا بعدما صارت الكاميرا أمامه، مع من يتحدّث؟ مع الرّاهب الذي كان يزوره بانتظام؟ أم مع محقّقي المكتب الفيدرالي اللذين سعيا لإقناعه بالكلام؟ لكن تحديد المعنيّ بخطابه يبدو أمرا غير ذي قيمة، ما دام شرين سيتكلم أخيرا. فجأة، يتدفّق الكلام من فمه بداية بالجملة الشهيرة «عندما كنت صغيرا اعتقدت أنّ الدّهانين يدهنون البيوت.. لقد كنت مخطئا». يعود بذاكرته إلى سنة 1975 حيث كان يتوجّه برفقة صديقه راسل بوفالينو أداء (جو بيشي) وزوجتيهما لحضور حفل زفاف في ديترويت، ويمكن اعتبار زمن الرحلة زمنا مرجعيا بالنسبة لباقي الأحداث التي ستسبقه. نحن في عملية فلاش داخل فلاش باك داخل فلاش باك، هذا الاسترجاع المركّب، سيقود إلى العودة إلى عمل فرانك كسائق شاحنة ثم اقترابه التدريجي من راسل، فلقاؤه بجيمي هوفا وعمله معهما، وتنفيذه لعشرات الاغتيالات لفائدة رسال، وتواجده الدائم مع هوفا. ليضطرّه راسل في النهاية إلى قتل رفيق أحبّه جدا، اضطرّ لقتل هوفا الذي تعلّق به، وهي الجريمة التي ستُفقده آخر ما تبقى في قلب بنته من ود اتجاهه، ومن ثمّ ستجعله يعيش ما تبقى من عمره في ذكريات ما اقترفه.
الفيلم مليء بالنّدم، لكنه ندم متأخّر. راسل الرّجل القوي حاول في نهاية عمره وهو في السجن أن يفصح لشرين عن أسفه الشديد بسبب قرار قتل هوفا، أخبره كم كان جيمي هوفا رجلا صالحا، وأنّه لم يرغب أبدا أن تتطوّر الأمور إلى قتله، لكن كان عليه أن يختار بين بقاءهما وبقاءه. المفتاح لفهم شخصية شرين جاء في حواره مع جيمي هوفا، عندما قال له «أنت شخص لا يظهر ما يحسّ به». يمكن النظر إلى هذه الجملة بالكثير من الاهتمام في محاولتنا لفهم هذه الشّخصية الكتومة. شرين فوّت الكثير من الفرص للكلام أو الاعتراف، كان يبدو أحيانا قريبا من تحقيق ذلك، لكنّه طوال رحلته إلى الماضي لم يفعل. يقدّم سكورسيزي لشخصيته فرصتها، ففي آخر المطاف كلما اقترب الإنسان من قبره، أراد إخراج الكلام من جوفه، وكأنّه لا يريد أن يذهب بما اقترفه من فظاعات إلى القبر، ربّما لا يستطــــيع تحملها تحت الأرض بعدما تحمل فوقها.
من الواضح جدا، أنّ سكورسيزي عمل في حرّية تامّة منحتها له نتفليكس، هنا يقدّم أطول فيلم في حياته 209 دقائق، موزّعة على 309 مشاهد، مدّة لم تشكل إطارا زمنيا لأي فيلم له من قبل، مدّة جعلت كثيرين يصفون الفيلم بالطويل، ويرون أن القصّة أطول من اللازم! خصوصا من شاهده في قاعة سينما. لكن طريقة سكورسيزي في بناء الحدث في الفيلم كانت منذ البداية تنسج مع الجمهور هذه العلاقة المتمهّلة، منذ أن نطق فرانك شرين جملته الشهيرة «صرت أدهن البيوت بنفسي. كان لازما عليه قبل أن ينتقل للعمل مع هوفا، أن يتعرف على راسل، الرجل القويّ الذي يمر كلّ شيء بعلمه، يستطيع حل المشاكل كل شيء بحركة يد، أو وشوشة في أذن! وأن تتطور علاقته بالرجلين في اتجاهين مختلفين. كان شرين أداة قتل في يد راسل، وسندا لهوفا.
أفلام سكورسيزي، كلّها وكما هو الحال هنا، تضمر عبقرية كبيرة في التقاط تفاصيل المكان، لقد تم التصوير في أزيد من 115 مكانا مختلفا، طيلة 108 أيام. كل مكان مرتبط أشد الارتباط بسياق الحدث ونفسية الشخصيات
الحال، أن الفيلم يشبه إلى حدّ بعيد، بناء معماريا، أو كاتدرائية ضخمة، التفاصيل تزيد البناء جمالا وليس العكس، هناك أحداث كثيرة موزعة بين 309 مشاهد، وإطار الأحداث أزيد من نصف قرن. ليس هناك حشو أو أحداث غير مترابطة كل حدث يبني نظام علاقات رمزية أحيانا وواضحة أحيانا أخرى، تتقلّب موضوعات كثيرة داخل ذاكرة الراوي، هو الشخص نفسه الذي وصفه هوفا بالإنسان الذي لا يفصح، يتخلّص من خرسه الآن، لكن لديه شرط واحد، أن تصير الحكاية بمنطق ذكرياته هو. ذكريات رجل مرّ بالكثير، الألم، العنف، القتل… صارت هذه الذكريات هي نسق الحكاية، التي لا تستقيم إلا بذكرها بهذه الطريقة.. أو لنقل بهذا الشرط. هناك عبقرية كبيرة في فتح الأحداث على بعضها، المخرج مارس شغفه القديم في تتبع منطق بناء العلاقات بين رجال العصابات، وأضاف إليه الآن منطق الذكرى لديهم. في مشهد بين هوفا وشرين أنت تلاحظ كيف ترك هوفا باب غرفته مفتوحا، هو لا يحب غلق باب غرفة النوم، وفي آخر مشهد جمع شرين بالراهب الذي كان يتأهب للمغادرة، يقول له شرين أبتي إصنع لي معروفا.. أترك الباب مفتوحا، لم ينس ذكرى هوفا لذلك يحييه عبر إحياء طقوسه حتى في النوم.
تصل مشاعر الأسف والحسرة منتهى تعبيرها عبر موسيقى روبي روبيرتسون، معرفته العميقة بعالم سكورسيزي، جعلته يجد كيمياء صوتية تمشي جنبا إلى جنب مع إيقاع الفيلم، موسيقاه التي صاحبت مرور جينريك النهاية، التي تأتي بعد ما ربطنا الفيلم بحالة نفسية جاثمة على النفس ونحن نحصي خسارات شرين، تصل حدّ نزع شيء منك وتركه داخل القاعة، أو حيثما شاهدت الفيلم، موسيقى النهاية تنهي حالة الشجن في ذاكرة شرين لتفتح أخرى في ذاكرتك.
أفلام سكورسيزي، كلّها وكما هو الحال هنا، تضمر عبقرية كبيرة في التقاط تفاصيل المكان، لقد تم التصوير في أزيد من 115 مكانا مختلفا، طيلة 108 أيام. كل مكان مرتبط أشد الارتباط بسياق الحدث ونفسية الشخصيات، آل باتشينو مثلا، عندما سُئل عن الإضافة التي لمسها عند العمل مع سكورسيزي، قال: «في المشهد الذي يتوجّه فيه هوفا إلى البيت حيث سيتم قتله، هذا البيت بطريقة ما كان يقول إنه منزلٌ مميت، كنت أحس ذلك في كل شيء، وهذا ما يفعله المخرجون الكبار».
في «الأيرلندي»، نحن أمام فيلم منجز بعاطفة كبيرة، وحب كبير للسينما، هو من هذه الناحية تحديدا يوجّه تحيّة حارة ـ قد تكون الأخيرة- جيل صنع ذاكرتنا. سكورسيزي في هذه الفيلم كانت لديه الفرصة لصنع وجبته المفضلة، لذلك فلا دهشة في العودة إلى التوابل التي صنعها بنفسه وصنعته أيضا.
٭ ناقد سينمائي من المغرب