الإبادة: أيّة مقاربة… أيّة كتابة

لا أحد في عالم اليوم شرقه وغربه، يملك ذرّة من عقل أو من ضمير أو من وازع دينيّ أو أخلاقيّ، يستطيع أن ينكر أنّ ما نراه في فلسطين «غزّة» ولبنان هو إبادة جماعيّة تقوم بها دولة هي عضو في الأمم المتّحدة؛ بل هي تدين بشهادة ولادتها «القيصريّة» لهذه المنظّمة؛ بالرغم من أنّ فلسطين لم تكن قطّ «حاملا» بهذا المولود: دولة إسرائيل، حتّى تُشقّ أرضها لاستخراجه. ومع ذلك قبلت منظّمة التحرير بوجود دولة الاحتلال، ورضيت بحلّ الدولتين الذي صار اليوم من الماضي، ومن «لَوْكِ» أهل السياسة؛ يديرونه في أفواههم وعلى ألسنتهم لا غير. ما يعنينا أنّها إبادة متعمّدة ملموسة، وقتل جماعيّ كليًا وجزئيًا، لا يراه إلاّ الذين أغشى التعصّب أو «عقدة الذنب» تجاه «الهولوكست»، على أبصارهم وقلوبهم.
تبدو مواجهة الإبادة عند جاحديها، وكأنّها سؤال متطفّل، أو هي في غير أوانها، أو في غير زمنها وغير موضعها؛ ما دامت إسرائيل تنكرها ولا ترى في الإقرار بها سوى نوع من «معاداة السامية». بل هي تنكر حتى حقّ الضحايا في العدالة وفي تضميد جراحهم؛ فيما القنابل والصواريخ تمزّقهم وتهدم منازلهم على رؤوسهم، وتحرق المزارع والمدارس والمستشفيات والأسواق، وتسوّي أحياء بأكملها بالأرض: جثث بشر متفحّمة جنبا إلى جنب مع الكلاب والقطط والخيول… ناهيك عن مرتجفين مرتعدين في الأقبية أو في ما تبقّى من شوارع وأزقّة، ينزفون ويتضوّرون جوعا أو يموتون عطشا. فأيّة كتابة وأيّة مقاربة تجد لها ركنا ولو ضيّقا في أذهان الناس وفي شواغلهم اليوميّة؟ إلاّ أن يكون الأمر نوعا من «رفاه» الفكر أو الأدب عندنا نحن البعيدين أجسادا، أو القريبين قلوبا وأفئدة من هول ما نرى ونشاهد. قد يكون هذا من أسباب غياب مسألة مثل «فلسفة الحرب/ الإبادة» قياسا بـ«فلسفة اللغة» أو»فلسفة الفن»، أو حتّى «أدب الحرب» على شيوع هذا المصطلح الذي لا يعدو في ثقافتنا مجموع قصائد أكثرها فخر ومديح، تقوم على قلب السمع بصرا، وتحويل الحرب إلى «فرجة» كما هو الشأن في السينما.
وكلّ ما هناك «خطاب حرب» أو «سياسة حرب» و«فنّ عسكريّ» واستخبارات وما إليها. ولا نملك سوى التسليم بما يقوله أهل الذكر من أنّ الفلاسفة والمفكّرين من هيراقليطس إلى هيغل، ومن أفلاطون إلى مكيافيلي، ومن أوغسطين إلى هوبز، ومن مونتسكيو إلى كارل فون كلاوزفيتز، وبرتراند راسل وغيرهم إنّما «يتحدثون» عن الحرب لإدانتها أو لتبريرها، أو البحث في أسسها، وقوادحها وآثارها. قد يكون طرح حرب الإبادة في الفكر والفلسفة عامّة أشبه بـ«نقطة العطالة» في السيّارة أو بـ«النقطة العمياء» على قلق الترجمة. ومن ثمّة لا غرابة أن يستقرّ الحديث أو يكاد على ما سبق هذه الإبادة «7 أكتوبر»، وليس على ما تلاها من عنف وتقتيل وتهجير وتجويع.
ذلك أنّ «بوليموس (الحرب، الصراع، المعركة في اليونانيّة القديمة) هي أمّ كلّ الأشياء، وملكة كلّ الأشياء ومليكتُها. من البعض صنعت آلهة، ومن البعض رجالا. وجعلت البعض أحرارًا، والبعض الآخر عبيدًا» كما يقول هيراقليطس (بترجمتي عن الفرنسيّة). إذن يكاد الفكر يقف مدفوعا مصدودا إزاء الإبادة أو في مواجهتها، وكأنّها في سياق هذه الحرب الوحشيّة والهمجيّة التي تغذّيها أسلحة الغرب وأمريكا، من المحرّمات الأخلاقيّة أو المحظورات الفلسفيّة. وإن كان بعضهم يلمّح إليها على استحياء أو خشية من عقاب يطوله؛ دون أن يأخذ جوهر العنف المتطرّف الذي تمارسه دولة وجيش «محترف» بعين الاعتبار. ويكاد التفكير، في ما نتابعه، يقتصر على موضوع العنف الذي يمكن إدانته، أو مجرّد الاعتراض عليه؛ حيث مسألة عدد الوفيات فقط، في صفوف العزّل وغير المقاتلين، يمكن أن تكون مثار الجدل.
إنّ الإبادة في هذه الحرب التي تدور بلا ضوابط من أعراف أو من أخلاق، في المجتمعات الدينيّة وغير الدينيّة، انتهاك للمقّدس، وليست مجرّد انتهاك للقانون الدولي. وليس من الغرابة في شيء أن يفزع رئيس حكومة الاحتلال ووزراؤه من غلاة اليمين، إلى إضفاء بعد دينيّ «مقدّس» على حرب الإبادة التي يخوضونها وهي ذات بعد دنيوي زماني، بشواهد من التوراة. ولنلاحظ كيف أنّ هذا «الدينيّ» أو «الاستعماري التبشيري» هو التي يتبادر إلى أذهانهم كلّما حشروا في الزاوية، بما في ذلك ترديدهم بأنّ هذه «حرب الحضارة ضدّ الهمجيّة». وبهذا المعنى يكون المقدّس ممّا يحرّم المساس به فهو فوق القانون الدولي، وفوق كلّ شيء، لأنّ المجال الذي يحدّه غير مرئيّ. أو هو «لا تاريخي» وخارج الزمن الحسّي ومجال العيش معا، وكأنّ دولة الاحتلال صورة لـ«الأب الأوّلي» الذي لا يخضع لشيء؛ وإنّما هو يتجلّى في كامل قوّته أو قدرته، ولا قانون يحتكم إليه سوى «قانون» الإبادة التي يبسط بها سلطانه، فهو مصدر نفسه أو أصل نفسه أو هو قانونه الخاصّ.
ولا أحد بمقدوره أن يحتلّ المكانة الأولى، إلاّ إذا ادّعى أنّه «أبو العشيرة» أي الذي لا ينتمي إلى عالم البشر، مادام يعتبر نفسه مصدر نفسه. والانتقال من الطبيعة إلى الثقافة فكرة أسطوريّة. والخطاب الأسطوري وحده ـ كما يقرّر دارسوه ـ هو وحده الذي يستطيع أن يؤكّد الأوّليّة «التاريخيّة» للطبيعة؛ إذ لا يمكن إدراكها إلاّ داخل مسمّيات الثقافة وباصطلاحاتها. وبهذه الحرب تقلب «دولة الاحتلال» المعادلة «الفريدويّة» رأسا على عقب حيث نعيش اليوم ونشهد انتقال الإنسان من العالم الإنساني إلى حياته الحيوانيّة الأولى. لكأنّها صورة «الإله ـ الأب» في رفض المنزلة الإنسانيّة، والاعتقاد في سلطة تمتلك ما نحن محرومون منه، أو هو ما ليس نحن، بما في ذلك السلطة «الرمزيّة الأخلاقيّة» لمنظّمة الأمم المتّحدة ومواثيقها. والأمر يتعلّق بتحويل «أبي العشيرة» إلى أب مثالٍ. حتّى أنّ نتنياهو ثارت ثائرته عندما ذكّره الرئيس الفرنسي بـ«شهادة ولادة إسرائيل»: «يجب على السيد نتنياهو ألاّ ينسى أن بلاده أُنشئت بقرار من الأمم المتّحدة». وكان ردّه ـ ولا غرابة ـ أن يسمّي استئصال الفلسطينيّين من أرضهم «حرب استقلال»: «نذكّر رئيس فرنسا: لم يكن قرار الأمم المتّحدة هو الذي أنشأ دولة إسرائيل، بل النصر الذي تمّ تحقيقه في حرب الاستقلال بدماء المقاتلين الأبطال، والعديد منهم الذين كانوا ناجين من المحرقة، وخاصة من نظام فيشي في فرنسا».
لا غرابة في هذا الخطاب الذي «يمزّق» صاحبه حتّى «شهادة ولادة دولته»، فإسرائيل تجسّد في منظور هؤلاء الغلاة المتعصّبين «المقدّس» أي البعد «غير المرئيّ» الذي لا يمكن المساس به أو تغييره. وكلّ اعتراض على حرب الإبادة وهمجيّتها هو في المنظور الإسرائيلي انتهاك للمحظور: عدوان على الحدود التي يفرضها «المقدّس» أو تحويل له إلى المجال الدنيوي. وهو «مقدّسها» هي حتّى أنّها حوّلت المساجد والمدارس والمستشفيات ومقرّات الصحافة، وهي كلّها محميّة بالقانون الدولي، إلى أماكن قتل وتقتيل. وما أسخف هذه «الإنذارات» التي تزعم الحرص على حياة المدنيّين الفلسطينيّين واللبنانيّين، وهم أكثر ضحايا هذه الإبادة من العزّل، فتدعوهم إلى إخلاء مساكنهم القريبة من «مقرّات أسلحة حماس وحزب الله»، وكأنّها «ثكنات عسكريّة» معروفة لديهم. هذا الصنيع ليس سوى انتهاك مروّع للـ»مقدّسات» الإنسانيّة خارج الدين؛ وهو ما يجعل المقدّس مرئيًا في بعده الآخر؛ وما يفسّر حرص دولة جنوب أفريقيا على إدانة حرب الإبادة، وتقدّمها بملفّ كامل عنها إلى محكمة العدل الدوليّة. وكلّ رجائنا أن لا تفلت دولة الاحتلال من المحاكمة والعقاب؛ وإلا ستكون كارثة الكوارث على الإنسانيّة أجمعها. فالقانون البشري هو الذي له الأسبقيّة على «المقدّس الديني» الذي يعيد الاحتلال صياغته والترويج له. القانون مقدّس هو أيضا، ويجب أن يُحترم مثل الدين، وليس خلطه به كما في حرب الإبادة هذه. و«المقدّس القانوني»، حتى في المجتمع العَلماني غير الديني، يقوم على حظر أو إدانة أيّ تجاوز دون أيّ قيد أو شرط، فما بالنا بإبادة مكشوفة كهذه.
ما هو المرعب في الإبادة الجماعيّة؟ هل هو عدد الوفيات أو القتلى أو المشوّهين مبتوري الأعضاء؟ وهل هو المعيار الوحيد الأوحد؟ قد يكون الأمر كذلك في جانب منه، ولكنّه أيضا في كلّ هذا الانتهاك الهمجيّ المروّع الذي لا يخفى؛ وتجريد البشر من كلّ ممتلكاتهم، والاعتداء على حرمة الأجساد وكلّ مظاهر الحياة. ونعرف جميعا من التاريخ أنّ هناك عادات في أيّة حرب هي أشبه بـ«أعراف» و«قوانين» و«شعائر» يفترض أن يحترمها المتحاربون. ورهان أحرار العالم على أن تتصدّى محكمة العدل الدوليّة بقوّة القانون لحرب الإبادة، وأن تحمّل دولة الاحتلال كامل المسؤوليّة، هو رهان على تخليص مثل هذه المؤسّسات من الوضعيّة «الأداتية»، أي ألاّ تكون وسيلة منذورة لغيرها أو وسيطا من أجل غايات توجد خارجها.
*كاتب من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية