وكأن قومي – الذين غرقوا في عجز مقيم أمام هول الإبادة الجماعيّة للفلسطينيين – قد وجدوا أخيراً ورقة توت صغيرة يتوارون بكليتهم تحتها، ويمارسون في مساحة الظلّ الذليل، الذي تتركه لهم بطولاتهم الوهميّة الثأريّة من الكيان الإسرائيلي، فكأنها أمّة انقلبت برمتّها إلى 400 مليون «دون كيشوت دي لا مانشا»، ينظرون على قلب رجل مختل واحد إلى الأفق الملبّد بأرواح الضحايا الأبرياء، فلا يرون سوى أوهام انتصار ساحق على عدوهم صار قاب قوسين، لا أبعد: إنها قضية جنوب افريقيا ضد (إسرائيل) في محكمة العدل الدّولية.
المشاهد العربي، الذي أصابه اليأس التامّ من متابعة البث الحي والمباشر للمذبحة الجارية، بلا توقف منذ أكثر من مئة يوم، ولم تعد الانتصارات الصغيرة التي تنجزها المقاومة هنا أو هناك تكفي غروره للنيل من العدو، اتخذ من المرافعة القانونية التقنيّة، التي قدّمها الفريق الجنوب افريقي أمام قضاة لاهاي، وتلعثم فريق الدّفاع عن الكيان، عزاء، وأتخمت مواقع التواصل الاجتماعيّ العربيّة بالمدائح لانتصار من أسموهم أحفاد مانديلا للضحايا الفلسطينيين، (ومانديلا نفسه كان اعترف في 1993 بشرعيّة الحركة الصهيونية كحركة قومية للشعب اليهودي، وبحق إسرائيل في العيش داخل حدود آمنة ومعترف بها لكن ذلك حديث آخر)، وانطلق (رسامو) فن الذكاء الاصطناعي في موجة لن تخبو سريعاً من لوحاتهم الشديدة المباشرة والتسطيح عن الأخ الأفريقي الكبير، الذي أقال عثرة أخيه الغزاوي الصّغير!
نسي قومي أو تناسوا أن المنظومة القانونية الدّولية ذاتها، التي يديرها الغرب لحماية مصالحه حول العالم، كانت شريكة في التمكين لقيام الكيان، وأداة لمنحه الشرعيّة كدولة، ومظلّة لمنحه الحماية من عواقب ممارسة التطهير العرقيّ ضد الفلسطينيين والعرب المستمرة، دون توقف حتى للاستراحة منذ مذبحة «دير ياسين». فكيف نرجو اليوم إنصافاً من الجلاد؟!
إن محكمة العدل الدّولية حتى بقبولها النظر إلى الدعوى الجنوب افريقية إنما وضعت ذاتها في مربّع خاسر. فهي حال اتبعت الحقائق والمنطق القانوني ووجدت أن الكيان العبري مذنب بتهمة الإبادة الجماعية، فإن الغرب ووكيله في تل أبيب سيتجاهلون الحكم علناً، ولن يمكن لأحد البناء عليه بأي شكل، وسينتهي مجرد رقم وقرار آخر يضاف إلى سجلات المحكمة، وإما أن تتجاهل الشمس وتفشل في توجيه الاتهام إلى إسرائيل من أجل استرضاء السادة الغربيين، فإن مصداقيتها العالمية سوف تتلطخ بشكل لن يمكن إصلاحه، وبالتبعية مصداقية الأمم المتحدة نفسها، الأم الراعية للمحكمة.
بالطبع فإن جهود جنوب افريقيا لإدانة إسرائيل في محكمة العدل الدوليّة نبيلة وبطولية وشجاعة، ولا تستحق عليها سوى التقدير والاحترام. على أن الخبرة التاريخيّة المعاصرة بشأن مفهوم العدالة الدّولية تجعله أقرب إلى الأكسمورون (أو السفسطة المتناقضة وفق الترجمة العربيّة). إذ أن النظام الدّولي، الذي يناط به تحقيق العدالة هو في الأساس نتاج للهيمنة الغربيّة على شؤون العالم بحكم منطق القوة المحض. ويكفي أن نستعيد ذلك التواطؤ الغربيّ بشأن المحكمة الجنائيّة الدولية بشأن الجرائم في يوغسلافيا السابقة لندرك كيف أن الولايات المتحدة وأتباعها الغربيين يمكنهم فرض توجيه تهم جزافية مثقوبة قانونياً لأطراف معادية لهم بارتكاب إبادات جماعيّة، وجرائم ضد الإنسانية، فيما تتعثر وتمنع أي محاولات لجلب أيّ من حلفاء الغرب (وعلى رأسهم إسرائيل) إلى قفص الاتهام، حتى ولو بتهمٍ أقل حديّة مثل ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.
المحكمة، التي أنشأها ومولها حلف شمال الأطلسي، بعد تدمير يوغسلافيا السابقة لإدانة ومعاقبة حلفاء روسيا من الصرب بتهمة ارتكاب إبادة جماعيّة على خلفية مذبحة سربرنيتشا ضد مسلمي البوسنة (1995).
وقتها ارتكبت جهات عديدة، بما فيها دول حلف شمال الأطلسي جرائم حرب متعددة ضد أطراف متعددة في يوغسلافيا السابقة، وكان منها مثلاً عملية التهجير القسري لربع مليون صربي من كرواتيا برعاية قوات الناتو، لكن كل ذلك تمّ إغفاله عمداً، والتركيز على حالة واحدة وجه فيها الاتهام للصرب. وقد تبنت المحكمة الجنائية الدولية عندئذ عتبات منخفضة بشكل غير مسبوق لإثبات وقوع جريمة الإبادة الجماعية: فلم يعد النية المسبقة (أي وجود خطة أو سياسة مبرمجة موثقة) ضرورياً لإثبات تهمة الإبادة الجماعية، ولم تعد تلك التهمة تنطوي بالضرورة على عبور رقم محدد للضحايا الذين تعرضوا للقتل، سواء من العسكريين أو المدنيين. ولذلك، فإنّ العدالة الدّوليّة قررت للنيل من الصرب أن أيّ قوة عسكريّة تقتل أي عدد من الناس ممن ليسوا في وضع قتالي حتى بدون وجود دليل على خطة مبيتة يمكن تصنيفها على أنّها جريمة إبادة جماعية، وملاحقة القائمين عليها.
وعلى هذا الأساس وحده، فإنّه يمكن نظريّاً إدانة الكيان العبري إدانة قاطعة على انتهاكاته البشعة ضد الفلسطينيين منذ اعتراف الأمم المتحدة به دولة في 1948، ناهيك عن (الهولوكوست) الحالي في غزة. ولكن من الواضح أن قميص العدالة الدّولية يعاد تفصيله اليوم على حجم وقياس جديد كي لا توجه الإدانة لطفل النظام الدّولي المدلل!
إن خبرتنا التاريخيّة، كعرب، يجب أن تكون أذكى من التعلّق بقشّة المؤسسات الأممية والقانون الدّولي عند التأمل بتحقيق حد أدنى من العدالة. ولكن إذا كانت ذاكرتنا قصيرة، فإن الحاضر يسعفنا: فهذه بريطانيا، أم البرلمانات والديمقراطية الغربيّة، تعمد منذ نوفمبر / تشرين الثاني الماضي إلى إقناع محكمة العدل الدّولية بتوجيه الاتهام رسمياً إلى نظام ماينمار بارتكاب إبادة جماعيّة ضد أقلية الروهينجا المسلمين تحضيراً فيما يبدو لتدخل غربيّ سافر للإطاحة به عسكريّاً، بينما تبذل في ذات الوقت جهوداً استثنائيّة لعرقلة سعي جنوب أفريقيا لمحاسبة الكيان العبري على الإبادة الجماعيّة في غزة لدى نفس المحكمة، ويرفض وزير خارجيتها، ديفيد كاميرون، وبشدة غير معهودة في العمل الدبلوماسي حتى مبدأ توجيه الاتهام إلى إسرائيل بذلك.
والمدهش، أقله لمن ما زال يحسن الظنّ في الغرب وحضارته ومؤسساته، أن المذكرة البريطانية التي وجهت إلى محكمة العدل الدوليّة تجادل في 21 صفحة بضرورة تحديد عقبة أقل للاتهام بتنفيذ الإبادة الجماعية والنية بارتكابها وعدم الاكتفاء بالتعريف القانوني الضيّق، الذي وضع قبل ثمانين عاماً، بينما تقود ذات الحكومة، وفريقها القانوني نفسها الآن جهوداً منسقة، بعد أقل من شهرين على المذكرة بشأن ماينمار، لرفض اعتبار جرائم إسرائيل في غزّة إبادة جماعيّة، لأنه لا توفر لدى المحكمة وسائل للتيقن من نية سلطات الكيان، بينما تمارس قتل مزيد من الفلسطينيين. وإنما الأعمال، عند كاميرون، طبّاخ حساء المعايير المزدوجة الغربي الشهير، بالنيّات.
عبث بلا طائل، فيما أعداد الشهداء إلى تصاعد لحظي
ومهما يكن من أمر القضية، التي رفعتها جنوب أفريقيا لدى محكمة لاهاي، فإن الكيان العبري لن يعبأ إطلاقاً بما قد يصدر عنها من أحكام إن هي تجرأت، وهو الكيان المسخ الذي تجاهل عشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن نفسه، كما الهيئة العامة للأمم المتحدة عبر العقود، ولم يخسر قرشاً واحداً بسبب ذلك.
على أن الأشخاص الذين سيكونون تحت الأضواء في هذه المحكمة هم كوادر المحكمة ذاتها، فالعديد من القضاة فيها معتادون على مطاردة أعداء الولايات المتحدة والغرب، فيما تحدي الهيمنة الصهيونية الآن سيكلفهم الكثير على الصعيد الشخصي، وحتماً سيفقدهم الثراء والحظوة والمكانة المرتبطة بخضوعهم الدائم لرغبات النخبة الغربيّة.
وبينما يلعب العالم لعبته القانونية السمجة هذه، وصل عدد الشهداء في غزّة إلى 25 ألفاً، غير عدة آلاف من المفقودين، وحوالي خمسة وستين ألفاً من الجرحى والمعوقين، مع ملاحظة وجود ثمانين في المئة من الجائعين في مجمل الكوكب، أي الذين لا يجدون ما يسد رمقهم بشكل يومي منتظم، داخل حدود القطاع.
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن