لا تزال قضية التمويل الأجنبي هي القضية الأكثر إثارة للجدل، فالأفلام المصرية والعربية، التي يتم إنتاجها عبر شركات إنتاج أجنبية، أو شركات مُتعددة الجنسيات، غالباً ما تحوم حولها الشُبهات، فالجهات المانحة تخص شركات بعينها بالتمويل وتحدد أطر ومواصفات لما يتم إنتاجه، بحيث تصب عملية التمويل في المكان المناسب، وتحقق المُستهدف من الأفكار والرسائل المراد بثها وتوصيلها لعموم الجماهير في المنطقة العربية.
وفي بعض الأحيان تسبق عملية التمويل قياسات رأي دقيقة حول القضايا الرئيسية التي تشغل المواطنين، وتتنوع القضايا ما بين السياسي والاجتماعي والثقافي، فكلها تحدد اتجاه البوصلة، وتشير إلى الموضوعات الأكثر أهمية، وبناءً علية يتم التركيز على المُهم والمُلح من بين ما يشغل الناس.
وهناك ملفات معينة توليها الدول الممولة والجهات المانحة عناية خاصة، كملف الإرهاب وملف الفقر وملف المواطنة، وتُعتبر هذه الملفات من الأولويات في شروط التمويل، فالظاهر الحسن هو المُعالجة، أما الباطن فهو الأصل والقاعدة في هذا الخصوص، وهي طريقة مُبتكرة وجديدة في الحصول على المعلومات المطلوبة، لقراءة الواقع العربي قراءة دقيقة ورصد ما تموج به الساحة من تقلبات وإرهاصات وتفاعلات، يتم تحليلها بمعرفة جهات أخرى مُختصة في تحليل المعلومات وتوجيهها.
ولما كانت السينما هي إحدى الوسائط الإبداعية الكاشفة، باعتبارها أداة جماهيرية مُتميزة، فقد تم التعويل عليها لتكون ناقله لنبض الشارعين المصري والعربي على السواء، ومن ثم يسهل من خلالها تحديد مسارات التفكير والميول، وفي هذه الخصوصية على وجه التحديد تُفضل شركات الإنتاج الأجنبية الممولة، الفيلم التسجيلي لأنه الأقدر على نقل الصورة الواقعية، كما هي مطلوبة بلا تدخل مُباشر من جانب صُناعه لتزيينها أو تزييفها، أو التقليل من وطأتها وتأثيرها، وبتكرار التجارب التسجيلية النوعية، وضعت الشركات المُنتجة معايير مُختلفة للفيلم التسجيلي، فغيرت من مواصفاته، كي لا تنكشف رسالته فجعلته عملاً إبداعياً مُختلطاً يجمع ما بين الرؤية الدرامية والإيقاع التسجيلي. وقد سبب هذا الخلط المُتعمد ارتباكاً في تحديد مواصفات المُستنسخات الجديدة من الأفلام، فظهر مُصطلح الفيلم الروائي الواقعي التسجيلي للتعمية والتشويش، وغاية ذلك أن تتشابه الرؤى السينمائية وتختلف التقييمات، فتضيع الملامح فلا يُفرق الجمهور العادي بين ما هو تسجيلي وما هو درامي ويفقد القدرة على الحكم الدقيق، إذا ما رأى في فيلم مُعين ما يسيئه، أو ما يختلف مع قناعاته ليكون الرد والتبرير جاهزين، إنها رؤية خيالية من بنات أفكار المؤلف، وبذلك يُعفى المؤلف والمخرج والمُنتج من أي شبهة.
هكذا يتم التحايل على المضمون، فتخرج نوعيات من أفلام طويلة وقصيرة وتسجيلية ووثائقية، بلا ملامح دقيقة تطرح مفاهيم بعينها عن صور الفقر والجوع والخوف والقهر والقتل، كمسوغات لحرية الرأي والتعبير، ودلائل قوية على قهر الحكومات العربية لشعوبها ،أو تفشي الإرهاب والجريمة والسرقة كانعكاس للأزمات الطاحنة في المُجتمعات المقهورة.
ولم تتوقف رسائل السينما الممولة عالمياً عند هذا الحد، لكنها تمتد إلى التشكيك في العقائد والمُقدسات الوطنية والدينية، والكفر بالثوابت، كحج بيت الله الحرام، الفريضة التي سخر منها الفيلم التونسي الفرنسي المُشترك «الرحلة الكبرى» الذي أنتج قبل عدة سنوات وعُرض في القاهرة ضمن فعاليات أسبوع أفلام دول الاتحاد الأوروبي، ومرّ مرور الكرام بوصفه فيلماً ينقل وجهة نظر خاصة لأحد الأبطال، يُقابلها في الفيلم نفسه وجهة نظر أخرى تُدافع بقوة عن فريضة الحج، كركن من أركان الإسلام الخمسة لمن استطاع إليه سبيلاً، ولم يكن هذا إلا تغطية لتمرير الفيلم فقط لا غير!
ولو أخذنا بمبدأ الاضطرار لقبول التمويل الأجنبي، والخضوع لشروطه نتيجة وجود أزمة في الاقتصاد السينمائي، لكان أولى بالسينما الفلسطينية وهي الواقعة بين مطرقة الاحتلال والحصار، وسندان الفقر المُدقع في روافد التمويل، بقبول كل الشروط المفروضة من قبل الجهات المانحة للأموال بالدولار واليورو، كي تخرج من عثرتها وتتنفس حريتها في ما تطرحه من مُشكلات وقضايا، لكنها أبت إلا أن تستمر في العمل بإمكانياتها الذاتية، مُفضلة استقلالها على رغد الإنتاج السخي المشروط، فرغم قصر ذات اليد لدى السينما الفلسطينية المُقاتلة إلا أنها دائمة الحضور في المهرجانات العربية والدولية والعالمية، والحاصدة الأولى للجوائز في التخصصات كافة، غير أنها الأنشط بامتياز على ساحة المسابقات، ففي عام واحد كان مهرجان القدس ومهرجان العودة اللذان يترأسهما رئيس المُلتقى الفلسطيني المخرج سعود مهنا، وهو ذاته رئيس الدورة المقبلة لمهرجان مالمو السينمائي الدولي في السويد، المُحتفي بالسينما الفلسطينية في فعالياته المُزمع انعقادها خلال الفترة المُقبلة، التي ستستمر نحو ثلاثة أيام.
وربما اختارت السينما الفلسطينية بحكم ظروفها المالية الصعبة الأفلام التسجيلية والوثائقية والقصيرة، لتكون عناوين لها فهي الحاملة لقضية الشعب وهمومه ومشكلاته، والمُعبرة عنها بصدق وتفان، وفي هذا الجانب المُتصل بعمق التعبير والإيمان الصادق بالقضية العادلة تبرُز أفلام مهمة من بينها فيلم «الشجرة المُباركة» و«هم في الذاكرة» و«موت مؤجل» و«بره فلسطين» و«عتبة الدار» و«الوصية» و«ميلاد مرّ» وغيرها العشرات من الأفلام ذات التمويل الذاتي، الخارج عن القبضة الأجنبية السياسية التي تحاول استخدام السينما، في احتلال الفكر الجمعي للشعوب العربية، كي تُرغمها على التبعية وبيع القضية.
كاتب مصري
الرحلة الكبرى فيلم سينيمائي مغربي للمخرج إسماعيل فروخي, من بطولة المغربي محمد مجد والممثل الفرنسي الشاب ذو الأصل الجزائري نيكولا كازالي.
فيلم رائع للمرحوم محمد مجد تحياتي لاخوتنا الشعب المغربي الشقيق
التمويل الأجنبي واللصوصي قائم منذ زمان، والتبعية حاضرة بدون تمويل، والإنتاج السينمائي في مجمله ضد الأمة ومستقبلها، والاستثناء يثبت القاعدة، فلينظروا إلى إنتاج بوزداج في تركيا، وكيف يحرك الحجر انتماء للإسلام والبلادوالإنسانية!