ماذا يحدث حين يطبق الصمت على المكان، وما عسانا أن نفعل حيال ذلك الفراغ القوي، كيف تتشكل إنسانيتنا حين يتحرك الحبر في خطى ثابتة، إما نحو السرد أو التفكير أو الشعر، الذي يجمع الغريمين معا في شطر واحد لا لشيء سوى غاية توحيد كيان الجسد التجريبي والعقل الشكاك؟ الكتابة بكل بساطة لحظة هدوء مفصلية عن كينونة الخارج داخل إطار ارتباطه في الآن نفسه، بغايات شخصانية، سيكولوجية وإتيقية. فأي عالم هذا الذي تكف فيه الكتابة والإبداع عن إثارة المشاكل؟
من أولى محاولات الإجابة عن هذا السؤال انطلق خطاب ألبير كامو أثناء تسلمه جائزة نوبل للسلام وهو يقول: «ليس الفن في نظري متعة فردانية، هو وسيلة لتهييج مشاعر أكبر قدر ممكن من البشر» بمعنى أن ممارسة أصعب مهمة إنسانية على الإطلاق «الفن» لا تعزل الفنان عن العالم، بقدر ما تجمعه معه في لقاء مفتوح الأشرعة على جميع الاحتمالات: الجسد، الروح، الوجود، العدم، النجاح، الفشل، إلخ. كل تلك تفاصيل مخبرية لوصفة تجاوز القلق الإنساني الذي يعبر عنه الإبداع، في وقت يشيّد فيه تعثر التفنن في العديد من مناطق العالم ضربا صارخا من الرضوخ للسوق والهواجس الشكلية المسلعنة، بدون التسرب لعمق الإنسان فينا.. إن لم يسترجع الكون ذاتيته بالفن فكيف سيكون ذلك إذن؟
سنوات الحرب هي نقاط متصلة لظهور العقد، والعاهات السيكولوجية التي يطول أثرها بعد رفع أوزار الصراع وتصافح القادة، حيث يحول العالم لأنصاف وأرباع أرباع عقلاء، فلا يمكن الجزم بغياب الأثر الرجعي للدم والفقدان، إلا لحظة الموت ذاته، حيث تغيب الذاكرة والوجود والكيان.
في مناسبة سابقة صرح جيل دولوز لطلبة السينما، بأن الفن هو مقاومة للألم، بمعنى مصارعة الجانب العدمي الشرير من هذه الذات الملطخة ببقايا الطفولة، وعوامل الكبت القاتلة، التي لا تجد طريقها لتصريف خصاصها، إلا عبر نافذة الخروج عن الداخل نحو إنسانية العمق، وثورة الاعتراف المفخخ بأسئلة الوجود الكبرى «من» و«لما».
سنوات الحرب هي نقاط متصلة لظهور العقد، والعاهات السيكولوجية التي يطول أثرها بعد رفع أوزار الصراع وتصافح القادة، حيث يحول العالم لأنصاف وأرباع أرباع عقلاء، فلا يمكن الجزم بغياب الأثر الرجعي للدم والفقدان، إلا لحظة الموت ذاته، حيث تغيب الذاكرة والوجود والكيان، ولا يحضر إلا الشق الخلاصي من الإنساني في شكل صورة لغوية أو تشكيلية.
على هذا الأساس تكون الأزمات فرصا مناسبة للانغماس مع المونولوغ الطويل بشكل يسمح أن أكون «أنا هو أنا» و«هو هو» فغصات العمر تلك مرحلة سابقة للانفجار العلني لما لم يقل وما لم يكتب، يكفي أن نتطلع لغرفة الأموات (زنزانة دستوفسكي) تلك المساحة الضيقة، التي ما فتئت أن سحرت العالم بأدب يغوص في الإنسان ويتشربه كالخمر المعتق في حانة للبكاء والضحك.
صحيح أن العديد من النقاد والحكماء اليوم يدعون لذلك التشاؤم السعيد بنوع من الرخاء الثقافي المرتبط بالتراث الرواقي، الذي لا يحزن ولا يفرح بقدر ما يرسو بالإنسان على بر بعيد عن الصدمة والتذمر، إلا أن لسعة الفقد والخيبة ما زالت تحتفظ بفاعليتها في الأعمال الأدبية والفنية، رغم التعاطي الواسع مع متفاعلات ما بعد الحداثة، بعد اقتحام وسائل السرعة والاتصال حياة المجتمعات بشكل متفاوت بين يد صانعة وكف مستهلكة.
العالم اليوم يخلد الإنتاجات الإبداعية، لكن قلما يسأل عن سبب الشروع فيها أو ظرفية الرضوخ لإرادة الحياة في ترسيخها على بساط مبيض، يعزو ذلك للقراءات البنيوية، التي تخلت عن شخصانية الإبداع من جهة، وعن عبثية المحيط الكوني الذي صار يسلط الضوء على الحاضر، دونما العودة للرحلة التي سبقت مخاض الإستجابة لجنون العقل. نعم جنون العقل، ربما يبدو ذلك غريبا، إلا أن فقدان العقل لعقله هو الذي أخرج نيتشه وكانط وديكارت وماركس، لأن العقل في الوهلة الأولى لا يكون فرديا قطعا، بل يتفهمهم بصفة جمعية تتداخل فيها ظروف النشأة، والتكوين، والنمطية؛ أما صنع الفتوحات الحقيقية فهي وليدة كسر القاعدة ليس إلا، ألم يكن نيتشه رجل المطرقة، ألم يكن أرسطو شهيد الفكرة، أولم تكن أرندت نجاة السؤال، ألم يكن المعري سفير الظلمات المضيئة؟
هؤلاء وغيرهم لم يحركوا ساكنا سوى العقل عبر سيرورة التعجب، الدهشة، ثم التدوين الكبير الذي رفع سقف الإنسانية الإبداعي. تحريك الثوابت وخلخلة النمط يحاكي الموت الذي يقلب الطاولة على الكاتب، ليصير مؤلفا كما يقول فتحي المسكيني، حيث لا يعد اسما، بل يصير موروثا معنونا يؤرخ لذاكرة خيلت للعالم ما لم يستسغ قبلها، في تلك الأويقة يؤبد العمل صاحبه بدواع حادة قادرة على توسيع الجدل والسجالات بعده أكثر من لحظة حضوره حتى.
في رواية أغوتا كريستوف المجرية «الدفتر الكبير» تصوب الكاتبة نحو القارئ خندق البحث عن الوجود في لحظات العدم والتشرذم، وتدور الشخصيات في فلك الثابت والمتحول/ الشر والخير، لتذهب بالمتلقي نحو غياهب الجانب المظلم والمنير للإنسان، وكيف قد يكون كلاهما صنيعة للآخر؛ صحيح أن السؤال الإنساني الوجودي ظل معلقا مع سارتر وبعده، إلا أن الأدب يتفرع على إجابات لا تمس اليقين، بل تتلاحق على إثارة المزيد من الشك والمزيد من الفوضى والمزيد من المشاكل.
هو كعادته لم يغيره تلاحق الأجناس ولا تربص التقنيات بالحداثة وانفصالها عن المدارس الكلاسيكية، ظل الإبداع وليد لحظة الفجأة والهرب من كبريات المواقف الإنسانية، لاسيما في حالة الحرب والدينامية المجتمعية المبشرة بوعي وشبق بشري جديد، المسألة لا ترتبط بعامل وحيد بقدر ما تتشابك مع التجربة الإنسانية الحية تارة ومحاولة الخلاص منها ولو نظريا تارة أخرى، إما من خلال ابتداع أحداث، أو خلق استعارات عميقة المدى، كما حدث مع تجربة محمود درويش التي غيرت مسار الشعر والهاجس الشعري بعده، لدرجة صار يصعب أن تتخيل شاعرا لم يقرأ لرجل عاش ومات للشعر، أو كما يقال «مات شعرا».
الفلسفة هي الأخرى على اعتبارها سيدة للمواقف الحرجة تخللت ملامحها عبر تاريخ طويل امتد من أفلاطون إلى دولوز، سؤال مفهومية الإبداع بشكل خاص في ارتباطة بمهمة اختلاق المعاني الإنسانية، بعد كل مرحلة من مراحل القلق الوجودي في مواجهة سؤال الماهية. إلى حين ذلك يثبث أن الإنسانية تصعب أن تتحقق خارج الفن والإبداع، ليس فقط باعتبارهما تصريفا لليبيدو المجروح، أو تجميل مطبات الحداثة، بمساحيق التشبيهات والصور والكليشيهات، بل من أجل التعبير عما هو أكثر دقة «الإنسان» في مقاربة بسيطة لتوضيح الفكرة تدعونا مثلا مجتمعات مرتبطة بالإنسان كإنسان من خلال تعبيراته وأعماله، مهما بلغت من السيريالية، إلى المقارنة مع مجتمعات أخرى تعتمد النمط الوحيد والمدارس الملتزمة الكلاسيكية، في مساحة لا تسمح بفتوحات جديدة تصرخ في وجه الزمن للخروج علنا للساحات والمسارح.
لا يتوانى أدونيس على التذكير أن الإنسان اليوم في مجتمعات الشرق يحتاج لمؤسسات وهياكل رسمية ليكون كذلك، أو ليكون حرا بالمعنى الأصح إلا أن لملمة شتات الإنسان العربي لن تكتفي بذلك، إلا في حالة اقتناع الفرد نفسه أنه هو هو كما هو، لا كما يراد أن يكون من لدن المعطى الموضوعي المحض.
للذاكرة نصيب أوفر في الحالة الإبداعية المزرية التي بلغناها، على إثر تقمص دور الضحية على مسرح واسع تكتسح كواليسه أرجاء الإنسان، لاسيما على يد السرديات البكائية التي خلفها الإستعمار، جعلت من الشباب حجاجا للموت عبر المياه الإقليمية الحدودية على بطن القوارب الصغيرة.
هي فكرة إذن عبّر عنها بشكل واضح فتحي المسكيني في كتابه الأخير «الهجرة إلى الإنسانية» حيث أتاح على مرّ أكثر من مئة صفحة دواعي وعلل هجر فيها الإنسان من كينونته الخاصة بفعل فكرة الوحدة ليس بمعناها السياسي، بل بشقها السوسيو فردي حيث نسخة واحدة، وحلم واحد يسود وطنا بأكمله، ليتحول بذلك التمرد عن مساره الصحيح نحو المغلوط، إما بسبب الفهم الملتبس لمدارس فكرية معينة، أو محاولة تعميم فكرة وحيدة عن التنوير، أي الانتقال من الشخص للإنسان عبر الرفض غير المبرر، أو حالة الضياع الفردية بين الطموح الحميم والرجاء الجمعي المسموح به مجتمعيا، فلكل بنية سوسيولجية خصائصها في الهشاشة.
للذاكرة نصيب أوفر في الحالة الإبداعية المزرية التي بلغناها، على إثر تقمص دور الضحية على مسرح واسع تكتسح كواليسه أرجاء الإنسان، لاسيما على يد السرديات البكائية التي خلفها الإستعمار، جعلت من الشباب حجاجا للموت عبر المياه الإقليمية الحدودية على بطن القوارب الصغيرة، أو طوابير الهجرة السرية عبر صحارى افريقيا حين يتعلق الأمر بالجوار القريب.
الهجرة فكرة خلاقة فعلا، لكنها تفشل في الخروج علنا إذا لم تترجم بكيفية تستطيع ملامسة أرضية الإنسان المهاجر نحو آفاق إنسانية جديدة، كما يقول المسكيني، فالبحث عن الإنسان في الحقيقة هو عامل الهجرة الحقيقي، حقول المهاجرين لا تطلب الشيء الكثير إلا المأكل والملبس والحرية، باختصار تحاول مصادرة الجانب الجنائزي من تذويتها، وهو ما يحول إلى كابوس على يد الأمواج أو الظروف المناخية الجافة للرحلة، أو حتى الحالة الاجتماعية في محطات الانتظار والعبور، في هذا الحد الفاصل للألم والأمل، يمكن أن يحل الفن والإبداع نزيلا في أرقى مطبات الحياة «الخلاص» من الخلاص ذاته لاستقطاب أكبر قدر من الكربوهيدرات المحضرة لطاقة الموت الخانقة.
كاتبة مغربية