ثمّة تعنّت لا يبدو أنّ له من آخر. قوامه نفي الطابع الطائفي أو الإثني للنزاعات والتصادمات التي «يُصادف» وقوعها بين أبناء جماعتين متقابلتين أو متناوئتين.
تتكرّر المكابرة على مسارح للأحداث شتّى، صغيرة وكبيرة، بدعوى أنّ الاستقطابات والمواجهات تجيء في كلّ مرة بشكل أكثر تعقيداً وتركيباً، فلا يجب أن يسمح باختزالها على هذا النحو «التنميطيّ» و«التصنيفي» و«الجامد» كما لو أنه، وكي لا يُختَزَل النزاع إلى ما يُحتمل فيه من عنصر «طائفي» أو «إثنيّ» رئيسيّ، يستحسن إراحة البال وشطب هذا العنصر، وتأويله على أنّه ظرفيّ وثانويّ ومخادع ومشبوه. أو أنّه محض وسواس لو نسيته نسيك. وهكذا كي لا يختزل نزاع الى المعطى الثقافي الهوياتي النافر فيه يجري بدلاً من ذلك اختزال «الإثني» إلى مجرّد قشرة عارضة، الغرض منها التضليل والتحايل و«شدّ العصب» ودفع بسطاء الناس للتقاتل فيما بينهم، خدمة لأرذلهم. وبدعوى ان السمة الطائفية للتصادم نافرة فوق اللزوم، يجري نفي أن يكون لها عمق يمتّ لها بذي صلة، على مستوى السرد والشعور والقصد.
ويُبنى أيضاَ على أنّ المبالغة في الإقرار بإثنيّة كما دينيّة النزاعات بين فرقتين سياسيتين من جماعتين مختلفتين ديناً أو دنيا، يمكنه أن يقود إلى تصليب و«تحجير» ما كان بمقدوره أن يبقى سائلاً كالحبر، ومتطايراً كالزبد.
وهذا بالمطلق صحيح، إن قصدنا شطط المبالغات. لكن بين الغلو في الشيء وإنكاره تماماً ثمّة بون شاسع.
وثمّة بالطبع من لا يزال يعتقد أنّ الهوية الإثنية والهوية الدينية لا تتداخلان، وكل واحدة تقيم في واد مقطوع عن الأخرى. مع أن تاريخ مسائل الهوية فيه أيضاً فصول بلا حصر لتنبّت الإثنيّ من رحم الدينيّ.
ويمكن الإشارة لأثر ريادي في هذا المجال، هو كتاب دنيز كيمبر بويل Denise Kimber Buell «لماذا انبثاق هذا العرق الجديد؟ عن التفكير الإثني في القرون المسيحية الأولى» 2005. يظهر من خلال هذا العمل كيف أن التأسيس لرابطة دينية، كالمسيحية، كان ينظر له من داخل هذه الرابطة على أنه مفارقة قوم (اليهود والوثنيون) والتأسيس تماماً لقوم آخر، حتى بالدلالة البيولوجية المتخيلة، وليس التأسيس لأممية مدائنية غير باحثة عن بلورة هوية «بيولوجية» – ثقافية مزمنة. هذا على الرغم من كل ما يطبع الرابطة المسيحية من مقاصد كونية. أن تكون المغايرة البيولوجية هنا ميثولوجية تماماً، فهذا لا يلغي حضورها الوثيق، حسب كيمبر بويل، في نظرة المسيحيين بالقرون الأولى، الى ولادتهم من جديد، بأجساد جديدة، فوق نيلهم سرّ العماد.
لا يعني ذلك أنه يمكن تعميم هذه النظرة على كل رباط دينيّ وإثني، ولا يعني الذهاب إلى أن الدينيّ يُطابق الإثنيّ. أبداً. لكن الواحد منهما يجتذب الثاني إلى فضائه، ويتداخل معه، ويحتمي به أو يضيع فيه.
ومثلما أن معظم الروابط الدينية تقوم على المفاصلة بين المقدّس والدنس، في الزمان وفي المكان، (وفي البال فهم ميرسيا إيلياد للظاهرة الدينية) فإن ما يستتبع ذلك هو المفاصلة بين الطاهر والنجس، سواء بقواعد طهارة ونجاسة مفصّلة أو مضمرة.
ولطالما كانت هذه المفاصلة بين الطاهر والنجس تفتح المجال لرسم «فواصل غير فكرية فقط» بين الجماعات الدينية. فواصل قابلة للأثننة.
والفارق بين المرحلة التي تتقصاها كيمبر بويل (العصر القديم المتأخر) وعصرنا، هو مقدرة الدينيّ كما الإثني في عصرنا على تحديث آلياتهما، في مقابل مشكلة عميقة لكل منهما مع أصل وفصل الحداثة (وتحديداً فكرة تأسيس الإنسان لنفسه بنفسه، فكرة المعرفة غير المتأتية أو المصدّق عليها من مصدر عُلوي أو غيبيّ). «التحديث اللاحداثوي» أوجد مناخات ملائمة كي يلوذ الانتماء الديني بالانتماء الاثني، والعكس بالعكس، ولنشأة ما يمكن تسميته «الإثنيات الدينية».
يجد البشر صعوبة بالاعتراف بجذرية فعل الاختلاف فيما بينهم. كما يجدون صعوبة في الاعتراف بعدم قابلية اختزال التعدد إلى الاختلاف على مستوى الأفراد فقط
وأيّاً يكن من شيء في هذا الصدد، الا أنه ثمّة وقع حسن للتعددية عندما تُشرّع على معاني الكونيّة الأوسع، بيد أنّ التعددية الفعلية بين البشر ليست كذلك على الدوام، وتتأرجح بين ما هو انطوائي وبين ما هو كونيّ.
التقريظ السهل للمتعدد الديني والإثني حين ينفصلان عن بعضهما البعض، يقابله انقباض وحنق من الديني والإثني حين يتداخلان ويشكلان تراكيب هجينة بينهما.
كما أن الإحتفاء بالكوسموبوليتية طول الوقت، وبالتعددية السائلة، غالباً ما يسعى جهده لطمس جزء آخر، وأساسيّ بعدُ أكثر من الواقع، تتكشف فيه التعددية على أنّها صعبة المراس، ومنقبضة، وفظّة، وليست مجرد لوحة فسيفسائية.
يجد البشر صعوبة بالاعتراف بجذرية فعل الاختلاف فيما بينهم. كما يجدون صعوبة في الاعتراف بعدم قابلية اختزال التعدد إلى الاختلاف على مستوى الأفراد فقط.
أما أكثر ما تبرز الصعوبة في الإقرار به فهو مبدأ المعاملة بالمثل، وتحسس جماعة لكدمات وآلام جماعة أخرى. وكثيراً، وفي البال الحالة اللبنانية، ما تكون الجماعة الإثنو ـ دينية نفسها متطلبة أن تنصت قرينتها الى وجعها هي، من دون استعداد متعادل للمعاملة بالمثل، إلا حين تجد نفسها في موقع تحالفي مع هذه الجماعة في مواجهة جماعة ثالثة.
وعلى هذا النحو، تنتشر الصراعات الإثنية والدينية التي تزين لنفسها، أو يزيّن خائضون فيها أو مراقبون لها، أنها في سرها أو حقيقتها أو جوهرها أو دلالتها نزاعات بين الحق والباطل والخير والشر والتقدم والرجعية والوطنية والجحود بها والحرية والاستعباد.
ليس هناك أي هوية غير مهجّنة، نعم. ليس هناك ما هو محض إثني، نعم. لكن أبرز أشكال التهجين هو تهجين الإثني بالدينيّ، أو العكس. التهجين المتواصل لا يجعل الهويات أقل مأزقية أو توتّراً، خاصة عندما يتغذّى التهجين نفسه من «رُغاب المحاكاة» إذا ما استعنّا بأعمال الفرنسي رينيه جيرار، مفكّر العنف القربانيّ بامتياز.
والحال اللبنانية هنا أيضاً تقول ما يتعدّاها. فرغاب المحاكاة بين الطوائف يوصل كل منها الى لحظة حيص بيص، تتباهى فيها الواحدة من خلالها بما ضحت به، تارة بمعنى أنها ضحّت من «جسدها الجماعي» لأجل البلد كله، وتارة لأجل نفسها، أو لأجل الطوائف الأخرى، في نوع من «وهب للتضحية» الفعلية أو المتخيلة هذه. ثم تتوتر طائفة من الأخرى حين لا تقبل هبتها القربانية هذه. نموذج تطبيقي هجين لكن متقدّم، للغز الهبة الذي شغل التقليد الأنثربولوجي منذ مارسيل موس. لكن، إن كان لغز الهبة عند الأنّاسين أوصلهم، وبخاصة مع كلود ليفي ستروس، الى جذرية سريان مبدأ المعاملة المتبادلة بين البشر، اذ فسّر ليفي ستروس الدافع الى هجران الزيجات بين الأقرباء المباشرين بالمبادلة (أزوجك اختي، لاتزوج اختك) فإن الهبة القربانية بين الجماعات الإثنو ـ دينية، في الحال اللبنانية نموذجاً، هي تلك القائمة أساساً على نفي المعاملة بالمثل. «أنا أتألم، اذا لا يتألم الآخر، إلا إذا قبل الهبة مني… أي وصايتي عليه». لعلّها الشيفرة التي يقوم عليها السستام الطائفي. وفي هذا السستام تحدث أشياء عجيبة كثيرة، مألوفة الى درجة انها قلما يتم توصيفها، من مثل الشخص الطائفي المألوف، الذي يرى الى كل من هم من طوائف أخرى على أنهم ينظرون إليه بشكل طائفي! يرى الطوائف الأخرى طائفية، وطائفته لا طائفية، بحكم ما لديها من هبة رمزية تتمنّع عن استلامها ثم إعادتها لها بالعرفان والامتنان الطوائف الأخرى!
كاتب لبناني