الإجابة الدائمة والسؤال الغائب!

أكثر من سؤال يأتيني في الحوارات التي يديرها بعض الصحافيين معي، أو يوجهه إليّ بعض الحضور في الندوات، هو هل أنت راض بما فعلته؟ وهل لو عاد بك العمر كنت ستختار الطريق نفسه؟ هذا سؤال لا بد أنه يوجه لغيري من الكتاب الذين يتقدم بهم العمر مثلي، وقد سبق وسمعته من بعض من سبقني في العمر مثل نجيب محفوظ أو يحيي حقي أو يوسف إدريس. الإجابة دائما هي نعم أنا راضٍ، ولو عاد بي العمر لاخترت الطريق نفسه. هكذا أجيب أنا أيضا، والسبب هو أن المواهب ليست اختيارا. كل منا يولد وجميع المواهب كامنة في روحه، لكن الحياة حوله هي التي تفتح الأبواب لتطل منها المواهب، ولا تظل تنظر في حسرة من النافذة كل مساء! فتح الأبواب فيه أيضا شيء غامض، فما الذي يجعل موهبة الكتابة تتفوق على موهبة العلم أو الرياضة أو حتى الإجرام، وكلها كامنة في روح الإنسان. هنا يحدث شيء من الإرادة غير الاختيارية في البداية، فتجد أبرز العلماء والأدباء والمفكرين وغيرهم في بداية حياتهم، عانوا آلاما وتعبا، وتجد كثيرين واجهوا سخرية من زملائهم على صمتهم أو اندفاعهم وأحيانا مظهرهم، لكنهم تجاوزوا ذلك كله، وهنا تأتي مرحلة الإرادة، التي قد يُظهرون هم فيها استخفافا وربما ازدراء أحيانا لما ومن حولهم، ولا يفكر مبكرا أحد في السؤال الغائب، هل تستحق هذه الحياة الحياة؟ هذا السؤال الذي سيقفز يوما فكيف ستكون الإجابة عنه؟
مثل غيري كنت في مدارس فيها كل إمكانات وطرق تفتح المواهب. ففيها مكتبة للقراءة وفيها فرق للتمثيل والمسرح والسينما والألعاب الرياضية والتجارب العلمية. أخذتني الموهبة في سكون إلى القراءة ومن ثم الكتابة. كيف أصف الفرح وأنا أكتب بعد أن وجدت نفسي مدفوعا لكتابة أول قصة. كيف اتسع العالم واستغنيت بالكتابة عن كل شيء آخر. ولأني أدركت أن ما جرى كان ناتجا من الحب الغامض للقراءة، أخذتني القراءة عن كل شيء.

لا أنسى أني كنت احتفظ يوما بمفكرة صغيرة ضاعت للأسف، كنت أسجل فيها كل يوم كتابا، وأنا تلميذ في المرحلة الثانوية. كيف كان أبي يدخل إلى حجرتي فيراني صامتا منغمسا في القراءة ، فيقول لي كيف لم تعد تخرج كثيرا مع أصدقائك، هل أنت بنت يابني؟ كانت أجمل أوقات الطفولة والصبا خارج البيت لعبا أو سينما أو حدائق أو شواطئ وغيرها كثير، ثم صار ذلك منتظما تأخذ فيه القراءة ومن ثم الكتابة أكبر وقت. مثلا حين حصلت على الشهادة الإعدادية عام 1961 ضاع حلمي أن أدخل الثانوي العام، بسبب إدراكي لعدم قدرة أبي على دفع مصاريف الجامعة، فاخترت المدرسة الصناعية مقررا أن أعمل بدبلوم الكهربا وأذاكر الثانوية العامة من جديد والتحق بالكلية التي أريدها وهي كلية الآداب، وفعلت. صار كل شيء الآن تحركه الموهبة والإرادة تفتح الطرق لها، ولم أفكر أبدا في السؤال الغائب الذي سيقفز يوما، هل تستحق هذه الحياة الحياة. وحين اخترت من بين الكليات كلية الآداب كان ذلك بإرادتي لأخدم موهبتي. كنت بارعا جدا في علوم الرياضيات مثل الجبر والهندسة والتفاضل والتكامل والمكيانيكا وحساب المثلثات، وهي أفرع الرياضيات التي كنا ندرسها في الثانوية الصناعية ومساوية تماما لدراسات القسم العلمي في الثانوي العام. درجاتي فيها شبه نهائية، لكنني اخترت بعد التخرج من مدرسة الصنائع أن لا التحق بالمعهد الصناعي العالي المساوي لكلية الهندسة، بل أعمل وأدرس من جديد الثانوية العامة لأحقق هدفي. ورغم نبوغي في الرياضيات اخترت القسم الأدبي والكل حولي مندهش كيف لا أسعى إلى كلية الهندسة. حين ذاكرت آخر سنة في الثانوية العامة أعطيت المذاكرة وقتا لا يُضيِّع فرصة القراءة، وكان شهرا فقط قبل الامتحان، لأحصل على مجموع ليس كبيرا أدخل به الكلية التى أريدها وهي الآداب.. وحدث.

لا أنسى أني كنت احتفظ يوما بمفكرة صغيرة ضاعت للأسف، كنت أسجل فيها كل يوم كتابا، وأنا تلميذ في المرحلة الثانوية. كيف كان أبي يدخل إلى حجرتي فيراني صامتا منغمسا في القراءة ، فيقول لي كيف لم تعد تخرج كثيرا مع أصدقائك، هل أنت بنت يابني؟

كنت أعرف أن قراءاتى ستساعدني علي المذاكرة، فكل ما أقرأه هو في الأدب والفكر واللغة العربية والإنكليزية، فما معنى تضييع الوقت فى الحفظ والمذاكرة؟ حين التحقت بكلية الآداب اخترت قسم الفلسفة، رغم أن أقسام اللغات كانت مفتوحة أمامي وقسم اللغة العربية. اخترت أن أفهم ما وراء العالم، فاللغة العربية في يدي واللغة الإنكليزية اقرأ بها، ولم يقفز سؤال هل يستحق هذا العالم الحياة. الموهبة هي التي جعلتني في خدمتها فصارت هكذا إرادتي. طريق حافل بالأحداث التي فضلت فيها القراءة والكتابة عن أي شيء آخر، وأولها المناصب في العمل أو المال، أو السلطة، أو القرب منها مثلا. كل ذلك لا بد مرَّ به الكثيرون من الموهوبين، وهو إجابة السؤال عن اختيار الطريق. لكن ما لم نضعه في اعتبارنا أنه سياتي يوم في عالمنا العربي قبل غيره نرى فيه عالما لا يستحق الحياة ويقفز السؤال الغائب، رغم ذلك حين تقارن حالات انتحار الكتاب العرب مع غيرهم في العالم تجدها قليلة جدا تحدث بين سنوات طويلة. هل نحن نرى العالم أجمل؟ لا.. لكنه الإيمان والرضا بالمقسوم ربما يراودنا أكثر.

في أعماق كل منا أن الانتحار حرام حقا، لكن يأتي الرضا ليوازي الأمل الضائع، أو على الأقل أشعر بذلك دائما، إذ تستيقظ فكرة الحرام أمام عيني، وأنا أفكر في الانتحار. سيسأل شخص كيف يظهر الإيمان بينما معظم الكتاب أو المبدعين ملاحدة وبعضهم يعلن ذلك، أو يظهر ذلك في كتاباته تحت غطاء كسر التابوهات مثلا؟ والإجابة أن المبدعين هم من أقرب الطوائف الي الله فمنه تأتي موهبتهم، ومنه تأتي نفحات الكتابة، ومن ثم من السهل أن يقف الإيمان أمامهم حين يفكرون في الانتحار. الإيمان في بلادنا فكرة يتم غرسها منذ الطفولة أكثر من غيرها في الشخص ومعها الرضا بالمقسوم. طيب هل يفقد المنتحر إيمانه؟ بالطبع لا، لأن اليأس يصل به إلى نقطة النسيان لكل شيء، لكن فرصة المبدعين في التذكر أكثر من غيرهم ممن ينتحرون. نادرا ما ينتحر المبدع لفقر أو اضطهاد جرى عليه وعجز عن الانتقام، ولا حتى حب ضائع، كل ذلك يتحول في الإبداع بالإرادة إلى قصور في الفضاء.

إنه يفعل ذلك إذا فعله، حين يدرك فداحة هذا العالم. أي بينما يفكر، ومن ثم ففكرة الإيمان يمكن أن تقفز أمامه تؤجل انتحاره. ستسمع ذلك مني ومن غيري لكنك تحتاج أن تسأل من انتحروا كيف عجز الإيمان عن إيقافهم، ولن يجيبوا طبعا إلا إذا ذهبت إليهم. هناك ستعرف وحدك ولن يفيدنا حتى أن تعرف، فلن تستطيع أن ترسل إلينا المعرفة رغم نسبية الزمان! الفضاء لا يحمل من الآخرة شيئا بعد ما حمله من قديم الزمان من وجودها، فأعان بها الناس على الحياة وسط قهر الطغاة. رغم ذلك فمن السهل أن تدرك أن اليأس أخفى عن المنتحرين كل الحقائق. إجابة تغنيك عن أي سؤال. هكذا فعلت الموهبة بمن هم مثلي في اختيار طريقهم، وهكذا، لكن بإيجاز، أجيب دائما عن ذلك السؤال هل أنت راض بما فعلت، وهل لو عاد بك الزمن كنت ستفعل شيئا آخر. الآن بعد ندوة أقمتها الأسبوع الماضي في مكتبة الإسكندرية تردد فيها السؤال، وجدت إلحاحا على روحي أن أشرح أكثر، وأعرف أن السؤال لن ينتهي ما دمت متاحا في الاتصال مع تقدم الاتصالات. ولولا أن معظم السائلين من صغار السن، لقلت لهم «كفاية شكلكم عايزني أموت» لكني أعرف أنهم يريدون الاطمئنان على مستقبلهم وسط جحيم الحياة. هو سؤال أيضا صحافي قديم يصنع شيئا من الإثارة، لكنه يقيم عالما جميلا من الإرادة المخلصة للموهبة، التي هي نفحة من الله. وارجو أن لا أغيّر رأيي بما أراه حولي وقد فاق كل عصور الظلم والطغيان.

روائي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية