الإجراءات الأمنية بين الصرامة وأدب الاستقبال

حدث ذلك عندما توجهت قبل أيام إلى مؤسسة إعلامية، قبلت التعاون معها منذ زمن بعيد، رغم مجانية المساهمات، بدافع اللحظات الجميلة التي أمضيتها وأنا استمع لبرامجها أيام طفولتي، لما تقدمه من محتويات اعتبرها غنية ومتنوعة.
قبل ايام، توجهت إلى تلك المحطة بكامل الثقة (وليس مجرد أنا كما ستلاحظون بعد حين) بعد فراغي من إتمام «اجراءات» لن يجادل أحد في وجاهتها، بل ضرورتها، وهي تستلزم إيداع جميع البيانات الشخصية تحت تصرف المؤسسة المعنية، لمن يزورها أو يتعاون معها «من بعيد»، بين هوية ورقم جواز سفر ومدة إقامة. وإذا بي أتوجه إلى المؤسسة مصافحا حارسي الأمن الموجودين امام المبنى، اللذين يردان التحية بأدب معهود ومشكور، أحدهما يغادر بعد انتهائه من العمل، بينما يستعد زميله لتسلم الدوام، ثم أدخل المبنى متوجها إلى استوديو البث بدافع السلام على من بداخله، وايضا مفاجئا بقدومي صديقة صحافية أعرفها على المباشر حينها. وإذا بكلمة «لا» منطوقة بالفرنسية تجلجل في الممر المؤدي إلى الاستوديو. من شدة المفاجأة التي لم تلبث أن تحولت إلى صدمة، انتظر ثانيتين أو ثلاث ثوان قبل أن أدير رأسي باتجاه الناطق.

المشكلة عدم وجود سياسية واضحة في بعض المؤسسات الإعلامية لاستقبال المتعاونين عندما يحلون ضيوفا عليها

هنا، ومن دون مقدمات أسميها، وفق مفهومي المتواضع للعلاقات الاجتماعية «تحية وسلاما»، يشير إليّ صاحب الـ»لا» الصارمة بالجلوس في البهو، يشرح له حارس أمني آخر بانني اتعاون مع الاذاعة، وهذا ما توثقه بياناتي الشخصية التي تسلمتها الإذاعة كاملة «حتى لو كان الأمر كذلك… ممنوع».
أهم بالمغادرة معتبرا بلبلة الوضع إهدارا للوقت واستنفادا للطاقة غير مجد، وإذا بحارس جديد يأتيني مستنطقا بنبرة لا يزال دوي صرامتها مؤثرا: «أنت على موعد مع من وفي أي ساعة؟.» أحاول أن أشرح أنني اتعاون مع الاذاعة ولم آت اليوم على اساس «موعد محدد»، وانما في زيارة ودية.. وإذا بصوت آخر آت من قمرة الأمن يذكر ان»كل تفاصيل السيد» تحت تصرف الإذاعة… لقد تمت الزيارة «الودية» فعلا. كما تلقيت أربع مكالمات اعتذار. لكن آثار الصدمة لا تزال قائمة. والمشكلة مشكلة اكبر، تتجاوز حالتي الشخصية لتطرح في العمق قضية عدم وجود سياسية واضحة في بعض المؤسسات الإعلامية لاستقبال المتعاونين عندما يحلون ضيوفا عليها. أي ضير سيكون من استلام الضيوف المقيمين أسبوعا أو أكثر بطاقة، badge، كما نقول بالفرنسية، تشمل كامل مدة الإقامة يبرزونها لطاقم الأمن فيدخلون المؤسسة بأريحية، أيا كان اليوم، شانهم شأن زملائهم الصحافيين؟
أي ضير سيكون من وجود سياسة تكوينية للطواقم الأمنية، تبدأ بالتذكير بضرورة توجيه التحية وردها، ثم تتواصل باستئذان صاحب الزيارة بشرح دوافعها إن دعت الظروف. عموما، اي ضير من تنسيق إداري واضح المعالم بين المفاصل يجعل وضع المتعاونين المدعويين وضعا مريحا؟ لا يمكنني إلا أن أدعم ضرورة تطبيق الإجراءات التي لا بد منها في مجموعة من الأماكن، لكن لا بد لي أيضا أن أدعو إلى تطبيقها وفق أبسط معايير أدب الاستقبال.
*باحث إعلامي وصحافي فرنسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    سؤال عنوان (الإجراءات الأمنية بين الصرامة وأدب الاستقبال) الذي طرحه المستشرق الفرنسي بيير لوي ريمون، يوضح أس مشاكل عقلية الآلة/العالة كموظف الأمن في دولة الحداثة في النظام البيروقراطي،

    والتي بسببها يصبح من يجلس على كرسي السلطة رب يستعبد وليس موظف يخدم، الإنسان والأسرة والشركة المنتجة في الدولة.

    ولذلك السؤال هنا، من يضحك على من، بخصوص الأتمتة ومفهوم الأمن والتأكد من الهوية آلياً هنا؟

    ولصالح من؟ ومن الخسران في النهاية؟!

    الأسرة المهنية في الشركة أم الدولة، وعن الوظيفة داخل الأسرة (ثقافة النحن كأسرة إنسانية)، وهل تتعارض مع الوظيفة خارج الأسرة (كمهنة لثقافة الأنا أو ثقافة الآخر)،

    ويجب أن يتنازل أحد أطراف الأسرة بالتنازل عن وظيفته خارج الأسرة المهنية للشركة، مما تم طرحه تحت العنوان.

    وهذه مشكلة المشاكل لدولة الحداثة لثقافة الأنا أولاً، ومن بعدي الطوفان، التي لا تفهم معنى المسؤولية أو كرم الضيافة، في طريقة أداء أي وظيفة، من الرئيس وحتى الغفير.

    وضرورة أن تكون منتجة، حتى المهنة الأمنية، لمنتج ذو عائداً اقتصادياً، وإلا سيفلس الجميع، الإنسان والأسرة والشركة المنتجة وبالتالي الدولة، كما أفلس الإتحاد السوفييتي في عام 1992.??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية