لمدة تزيد عن عشرين عاما كانت الحرب على الإرهاب العالمي هي الشغل الشاغل والأولوية القصوى لاستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة، لكن أقوى دولة في العالم تواجه اليوم تهديدا حقيقيا من الإرهاب المحلي الداخلي وليس من الخارج؛ فالإرهاب الداخلي اقتحم الكونغرس الأمريكي في مواجهة سافرة مع مؤسسات الدولة، كان الغرض منها منع إقرار نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهو حدث يمكن القول إنه محاولة للانقلاب على نظام الحكم في معقل الديمقراطية الغربية، كما وصفته فيونا هيل مساعدة مدير مجلس الأمن القومي الأمريكي للشؤون الأوروبية (2017- 2019) في مقال نشرته مجلة «بوليتيكو» الأمريكية في الشهر الحالي بعد اعتداءات 6 يناير على مقر الكونغرس.
وما تزال المباحث الفيدرالية الأمريكية وأجهزة التحقيقات المختلفة تواصل العمل على كشف تفاصيل محاولة الانقلاب هذه والإمساك بخيوطها، من خلال إلقاء القبض على عناصر من الذين شاركوا في اقتحام مقر الكونجرس، والتحقيق معهم. وقد كشفت التحقيقات حتى الآن، حسبما أعلنت أجهزة التحقيق وتقارير الإعلام، ومن أهمها تقارير لصحيفتي «نيويورك تايمز» و»واشنطن بوست» عن وجود مخطط واسع النطاق على مستوى الولايات المتحدة للاحتشاد في واشنطن يوم اقتحام الكونغرس، تضمن قيام تنظيمات وجماعات يمينية متطرفة مسلحة باستخدام منصات التواصل الاجتماعي في الدعاية والتحريض، وإجراء ترتيبات التمويل وجمع التبرعات، وسبل الانتقالات، والاتصال مع الفنادق في واشنطن للحصول على خصومات للإقامة، بإيعاز من ترامب.
ومن أخطر التفاصيل التي تم الكشف عنها أن بعض المقتحمين كانوا يسعون إلى أخذ رهائن من بين الأعضاء، وإعلان «ثورة» على النظام السياسي في الولايات المتحدة.
المرحلة المقبلة في السياسة الأمريكية هي أقرب ما تكون إلى مرحلة دفاع عن النفس، وتراجع للنفوذ في الخارج
ومع استمرار التحقيقات، فإن الكثير من التفاصيل غير المعروفة حتى الآن ستكشف عن طبيعة الجماعات التي تولت تنظيم عملية الاقتحام من بدايتها إلى نهايتها، ومدى قدرتها على الاستمرار، خصوصا أن بعض الجماعات التي شاركت ليست جديدة، ولها تاريخ طويل في التعصب العنصري والكراهية الاجتماعية وممارسة العنف. وقد ظهرت من بين هذه الجماعات أسماء لمنظمات تتبنى مفهوم تفوق البيض وسيادتهم على من عداهم، وتأييد التعصب العنصري، إلى جانب تنظيمات نازية وفاشية جديدة، وميليشيات مسلحة معادية للحكومة، وجماعات الفوضويين وغيرهم.
ويمثل ظهور هذه المنظمات بقوة على واجهة المسرح السياسي تحديا ضخما لاستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة، واختبارا صعبا للرئيس الأمريكي، الذي من المقرر أن يتم تنصيبه رسميا اليوم الأربعاء وسط إجراءات أمنية شديدة، خوفا من حدوث اضطرابات وأحداث عنف قد تستمر بشكل متقطع فيما بعد، ربما لسنوات مقبلة وليس لعدة أيام أو أشهر. إذا استمرت الأمور على هذا النحو فإنها تعني أن منظمات يمينية قومية متطرفة ذات ميول لاستخدام العنف كوسيلة لتحقيق أهدافها، سوف تصبح لاعبا سياسيا جديدا، وقد ترتبط بعلاقات مع جماعات مماثلة لها في الخارج، وكذلك مع جماعات أجنبية هدفها زعزعة النظام السياسي في الولايات المتحدة، ومحاولة إسقاط الدولة الفيدرالية من الداخل. بهذا يصبح تهديد التنظيمات غير الحكومية التي تمارس العنف مؤكدا في دولة يعتبر دستورها أن حيازة الأسلحة وحملها هو واحد من الحقوق الفردية غير القابلة للمصادرة، إلا في حدود ضيقة جدا. كان ظهور مؤيدين لترامب بكامل أسلحتهم الشخصية في الأماكن العامة أثناء الانتخابات الرئاسية وبعدها، منظرا مألوفا بالقرب من لجان التصويت، ما تسبب في الكثير من المضايقات، ومحاولات إعاقة الناخبين غير المؤيدين لترامب من الإدلاء بأصواتهم. وإذا كانت الولايات المتحدة قد نجحت في ترتيب اغتيال شخصيات مثل أسامه بن لادن مؤسس وزعيم تنظيم «القاعدة» وأبوبكر البغدادي زعيم «داعش» وقاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، ومن ثم الحد من نفوذ هذه التنظيمات وغيرها، فإن التحدي الجديد الآن ليس «حزب الله» اللبناني، ولا الحرس الثوري الإيراني ولا الحوثيين في اليمن، وإنما هو كيفية التعامل مع الحركات الوطنية اليمينية المتطرفة في الداخل، التي تسعى عملياتيا للقيام بانقلاب على الديمقراطية، واحتلال صدارة المشهد السياسي بأيديولوجية متطرفة عنيفة؛ فهل ستفعل الولايات المتحدة مع قيادات التنظيمات والجماعات الإرهابية الأمريكية، مثلما فعلت مع من تتهمهم بقيادة الإرهاب العالمي؟ ويبدو أن الحزب الجمهوري الأمريكي لم يدرك بعد حجم التحدي والتهديد الذي يمثله صعود التنظيمات المحلية الإرهابية إلى مسرح التأثير السياسي المباشر، ليس كجماعات ضغط، وإنما كلاعبين رئيسيين يحاولون تغيير النظام السياسي، بل إن أنصار ترامب داخل الكونغرس صوتوا بقوة ضد دعوى الديمقراطيين بمحاكمته بسبب التحريض على العنف ضد الحكومة الأمريكية، وتشجيع تحقيق أهداف سياسية لا أساس لها، تصطدم مع أسس ومبادئ النظام الديمقراطي، مثل مبدأ التداول السلمي للسلطة عن طريق التخريب وإراقة الدماء. وفي تقييم الوضع الحالي قال جي جونسون الوزير الأسبق للأمن الوطني في الولايات المتحدة: إن الإرهاب المحلي هو التهديد الرئيسي وليس الإرهاب المقبل من الخارج.
مخاطر الجماعات المسلحة
انتهى عام 2020 ليكون أكثر الأعوام دموية في الولايات المتحدة منذ بداية القرن الحالي. وطبقا لإحصاءات رصد حوادث إطلاق النار والعنف المسلح، فقد راح ضحية هذه الأحداث أكثر من 19 ألف شخص، وهو أكبر عدد من الضحايا في عام واحد خلال الأعوام العشرين الأخيرة. وكان الأمريكيون من أصول افريقية هم الأكثر تعرضا للعنف من غيرهم، حيث بلغت نسبة ضحاياهم من حوادث إطلاق النار حوالي 68% من مجموع الضحايا. كذلك سجلت الإحصاءات في العام الماضي زيادة كبيرة في عدد حوادث العنف المسلح بشكل عام في كل أنحاء الولايات المتحدة، ففي منيابوليس التي قتل فيها جورج فلويد، على سبيل المثال، وصلت نسبة الزيادة 77%. وعلى صعيد دراسة الدلالات السياسية لتفاقم ظاهرة الإرهاب المحلي، أجرى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في الولايات المتحدة، دراسة تحليلية لتطور قدرات وأنشطة الجماعات المسلحة غير الحكومية خلال الفترة من يناير 1994 إلى مايو 2020، رصد فيها قيام هذه الجماعات باعتداءات فعلية أو التخطيط لاعتداءات تم إحباطها، بلغ عددها 893 واقعة أو محاولة اعتداء. وطبقا للتحليل فإن العمليات الإرهابية التي قامت بها الجماعات اليمينية المتطرفة استحوذت على النسبة الأكبر من مجموع العمليات الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة، إذ بلغت نسبتها 57% من مجموع الاعتداءات الإرهابية. وقالت الدراسة إنه بمتابعة العمليات الإرهابية للجماعات اليمينية المتطرفة عام 2019 فإن هذه الجماعات استحوذت وحدها على ما يقرب من ثلثي العدد الكلى للعمليات الإرهابية (المنفذة والمخططة التي تم إحباطها). واستمر المعدل في الارتفاع حتى بلغ 90% من كل الحوادث الإرهابية التي وقعت في الولايات المتحدة خلال الفترة من أول يناير إلى 8 مايو 2020. وتضمنت استنتاجات الدراسة أن عدد الاعتداءات الإرهابية بواسطة منظمات اليمين المتطرف، سيستمر في الارتفاع قبل وبعد الانتخابات الأمريكية، خصوصا إذا خسر ترامب، وهو الاستنتاج الذي ثبتت صحته منذ انتخابات نوفمبر الماضي. كما تضمنت استنتاجات الدراسة كذلك أنه رغم أن الاعتداءات الإرهابية التي قامت بها منظمات متطرفة دينيا مثل «القاعدة» وتنظيم «الدولة الإسلامية» وغيرهما كانت مسؤولة عن عدد كبير من القتلى في اعتداءات 11 سبتمبر، إلا أن الاعتداءات الإرهابية التي ارتكبتها جماعات يمينية متطرفة، كانت هي المسؤولة عن أكثر من نصف عدد القتلى في جميع الاعتداءات الإرهابية المحلية في 14 عاما من 21 عاما الأخيرة.
استراتيجية لحرب أهلية
وتشير أحداث اقتحام الكونغرس، والإعداد لاحتجاجات عنيفة قبل وبعد تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب إلى أن استراتيجية الجماعات اليمينية المتطرفة، وهي في مجموعها جماعات مسلحة، تنسق فيما بينها وفقا لنظام لامركزي مرن، قد انتقلت الى مرحلة جديدة من مراحل الإعداد لحرب أهلية، بعد خسارة ترامب في الانتخابات الأخيرة، ما يتطلب من الإدارة الجديدة تطوير استراتيجية للأمن القومي، تأخذ في اعتبارها أن تهديد الإرهاب المحلي هو التهديد الرئيسي الأشد خطرا، وليس الإرهاب الخارجي أو العالمي. ومن المتوقع أن يصبح هذا التغير في استراتيجية الجماعات المسلحة غير الحكومية في الولايات المتحدة قيدا على السلوك الخارجي للإدارة الأمريكية الجديدة في الشؤون العالمية لسببين، الأول أن الإدارة ستحتاج إلى تركيز مجهودها الرئيسي على مكافحة الإرهاب المحلي، وهو ما يتطلب موارد هائلة وتنسيقا على أعلى درجة بين أجهزة المخابرات والأمن والعدالة وسلطات تطبيق القانون على المستوى المحلي. والسبب الثاني هو انكماش حدود وقدرات القوة الأمريكية لأسباب استراتيجية تتعلق بإخفاقات أمريكية، ونجاحات خارجية في قضايا حاسمة في الوقت الحاضر مثل مكافحة فيروس كورونا، وتحفيز النمو الاقتصادي. باختصار ستصبح أهم أولويات الإدارة الجديدة هي مواجهة الإرهاب المحلي وليس العالمي، ومن ثم فمن المرجح أن يتراجع دور الولايات المتحدة في التحالف العالمي للحرب على الإرهاب، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى إعادة النظر في مفهوم الإرهاب العالمي، وطرق مكافحته بعد مجيء إدارة بايدن، خصوصا بعد سيل العقوبات التي تم إعلانها أخيرا على تنظيمات وشخصيات تتهمها الولايات المتحدة بممارسة أو رعاية الإرهاب. وفي السياق نفسه ستحتاج الولايات المتحدة والإدارة الجديدة إلى تخصيص النسبة الأعظم من مواردها ووقتها لإصلاح الأوضاع الداخلية، وإعادة الثقة إلى المواطنين في كفاءة الحكومة والنظام السياسي، بعد أن هبطت الثقة إلى مستوى شديد التدني في الأسابيع الأخيرة. المرحلة المقبلة في السياسة الأمريكية، أقرب ما تكون إلى مرحلة دفاع عن النفس، وتراجع للنفوذ في الخارج، والتحدي الرئيسي للأمن القومي الأمريكي هو تحد داخلي وليس خارجيا، وسوف يكون نجاح أو فشل الولايات المتحدة في المرحلة الجديدة هو العامل الذي سيقرر مستقبلها ودورها في النظام العالمي حتى منتصف القرن الحالي.
كاتب مصري
اللهم زد وبارك لهم في فوضاهم الخلاقة ليذوقوا ما كادوه للعرب والمسلمين
نعم إرهاب اللوبي الصهيوني الذي ينخر في جسد الأمة الأمريكية على كل المستويات هو أخطر إرهاب