«اللوحة ساحة معركة بلا حدود.» أنطونيو ساورا
ولد الرسام والكاتب أنطونيو ساورا (1930-1998) في إحدى البيوت الأندلسية لمدينة «ويشقة» شمال إسبانيا، هو أحد الرسامين الإسبان الرئيسيين الذين ظهروا بعد الحرب في إسبانيا في الخمسينيات من القرن العشرين. كان في بحثه التشكيلي يستمد أفكاره من الفوضى السائدة التي يراها في الحياة. يبحث عما وراء الشكل، عن المروع فينا، وصولا إلى الفاحش في إنسانيتنا. بتمرين القسوة كان يبحث عن فردوس دون جمال، عن طريق تضاريس لوحات يراد بها الوصول إلى العالم المقدس للمحظورات. لاستكشاف وحشية تتميز بالإفراط بالفوضى والقسوة وبأجسام محطمة وممزقة، تعبر بحق عن اضطراب وقلق، وبوجوه إنسانية محطمة في زمن لا طمأنينة. وفي صراع دائم مع كينونتها. كل أعماله مجازية وتتسم بصراحتها التشكيلية المدهشة في اكتشاف عالم التوحش الإنساني.. عبر نماذج أصلية للشكل البشري (وجوه، صلبان، أكفان) وللجسد الأنثوي (النساء، العاريات) وفي سلسلة «لوحات التخيلية» كلوحات «كلاب غويا» ولوحات غويا الخيالية، ولوحات من تاريخ إسبانيا تجمع عددا من صور شخصيات التاريخ الإسباني مثل فيليب الثاني، كيفيدو، هيرنان كورتيس، غويا، سانتا تيريسا. اقتصرت معظم ألوانه على الأسود والرمادي والبني.
من أجمل حوارات الاعترافات الأخيرة للرسام أنطونيو ساورا، قبل مواجهة سؤال التواري والعدم، كان حوار المكاشفة والساعات الأخيرة وهو في عيد ميلاده السابع والستين، مع الصحافية الإسبانية سوليداد الاميدا في جريدة «الباييس».
بدأ الرسم والكتابة عام 1947 في مدريد بينما كان يعاني من مرض السل، وظل محتجزا في سريره لمدة خمس سنوات.. مطاردا طول حياته بالمرض وبسؤال الموت. كان يعرّف نفسه بالفنان المقاتل وكان يصرح دائما أمام معجبيه، لن أكون على قيد الحياة، وبأن الألم يشحذ العبقرية.
□ بسبب مرضك المبكر، لم تتح لك الفرصة لمتابعة الدراسة…
ـ أنا عصامي تماما. لم أدرس الفنون الجميلة أو الفلسفة أو الآداب. يسألني الناس أحيانا عن أول لوحة لي، وكيف رسمتها، ولا أتذكرها. لكن يجب أن أتذكر ذلك لأنني أتذكر أشياء أخرى كثيرة، مثل التجارب الرومانسية.
□ في سن 13، مرضت، ثم عانيت من مشاكل صحية أخرى، في الواقع، حياتك مسكونة بالمرض. كيف أثر هذا في رسوماتك؟
ـ جسدي كان دائما كارثة. لا أعرف كيف نجوت من كل ذلك، أعتقد أنني كان يجب أن أموت منذ وقت طويل. طبعا تجربة المرض والألم عرفتها منذ زمن طويل. كما أنني أعرف تجربة الشفاء كذلك، وهي تجربة رائعة. تستعيد الحياة تدريجيا، تلك الأشياء السخيفة والسخيفة مثل الاستماع إلى طائر صغير يغني. في هذه اللحظة، يوقظني طائر صغير كل يوم في السادسة صباحا..
□ تقصد أن المرض يسمح لك بالاستمتاع بالحياة أكثر من الشخص السليم؟
ـ أعتقد أن هناك لحظات من الشدة لا يعرفها الشخص الذي لم يعانِ من الألم. أنا لست مازوشيا، لكنني أقبل الصعوبات. المرض هو جزء من هذا الخط المتموج الذي هو الحياة، بما في ذلك من وجهة نظر فنية، أنا ضد فناني الحرباء.
بدأت حياته كفنان سيريالي عندما زار باريس عام 1954 ومكث فيها سنتين يتعلم في مدارسها التعابير التشكيلية الحداثية. كان أحد مؤسسي جماعة الممر el paso عام 1957 مع مانولو ميلاريس ورافائيل كانوغار ولويس فيتو. وقد شكلت هذه الجماعة من الرسامين الإسبان خطابا تشكيليا طلائعيا وحداثيا ومعاصرا في الدعوة إلى التجديد والتحرر من تقاليد الفن الكلاسيكي، ما بعد الحرب الأهلية 1936-1939.
□ كنت تتحدث عن فناني الحرباء، وأنا أفكر بالأخص في بيكاسو، ربما يكون مثالا متطرفا..
ـ نعم، بيكاسو استثنائي للغاية.. الآن، بعد العلاج – العلاج الكيميائي فظيع حقا – أول شيء فعلته هو الكتابة عن الرسام بول كلي. أنا أتحدث عن الفنانين متعددي الأشكال، التي ليست هي نفسها كما يماثل عند الرسامين (الحربائيين) التي تتغير وفقا للموضة، مع بعض انتهازية اللاوعي في بعض الأحيان. من ناحية أخرى، فإن الفنان متعدد الأشكال هو الذي غير في حياته طريقة عمله ليس في مفهومه، لكن من وجهة النظر الدلالية. عمل الرسام بول كلي متنوع للغاية، مثل عمل الرسام دي كونينغ، الذي يتراوح من الشكل الأكثر وحشية إلى التجريد الأكثر راديكالية. ما كتبته عن بول كلي يتعامل مع عمله النهائي، السنوات الأخيرة من حياته، وهي فترة رائعة. كان بول كلي مريضا جدا، مع قيود جسدية شديدة، وقد رسم بشكل هائل وسريع جدا مع توليفة رائعة. مع القليل من العلامات جدا، حقق تعبيرا كبيرا.
□ تحدثت في وقت سابق عن الرسام بول كلي كرسام مكثف. هل غالبا ما تكون أعمال السنوات الأخيرة لرسام هي الأفضل له؟
ـ نعم، الرسام دييغو فيلاسكيز رائع في سنواته الأخيرة، وكذلك رامبرانت وغويا وجيريكو. أنا، قبل مرضي، كنت في لحظة جيدة، كنت أرسم كثيرا. أدرك أنني في عملي «النهائي». أنا أدرك ذلك، نعم، وأنا أقولها بروح الدعابة. فجأة، منذ أن كنت مريضا جدا، كانت هناك أشياء غريبة تحدث معي، يتصل بي العديد من الأصدقاء ويهتمون بي بمودة مفرطة. لكنك تدرك أن الأشخاص الذين تقابلهم ينظرون إليك بطريقة مختلفة، بجو من التفكير: سيموت قريبا. وعلى الفور ارتفع تصنيف لوحاتي عالميا. أخيرا، هناك العديد من الأعراض التي تظهر أنني فنان «نهائي» ها، ها، ها! وهذا ينضم إلى فكرة أخرى: أن الرسم هو إفراز للفرد الإنساني وبالتالي لا يمكن أن يموت أبدا.
□ يجب أن تكون لديك ثقة كبيرة بالنفس لمحاولة ذلك.
ـ إنه شيء لا يمكن تفسيره. يوجد أحيانا رسامون يجدون حلا تقنيا مثيرا للاهتمام؛ أفكر في جاكسون بولوك، الذي قام باكتشاف تقني مدهش، والذي يمكن انتقاده بسبب هذه الحقيقة بالذات، لكنه فنان رائع. إنها أكثر من مشكلة تقنية، إنها مسألة ضرورة تعبيرية ثقافية. رسامو الزن اليابانيون يتأملون لفترة طويلة، ثم يغمسون فرشهم الضخمة بالحبر الصيني، لكن قبل ذلك، كانوا يتأملون لفترة طويلة. أعتقد أن الرسامين يتقدمون نحو المستقبل بترك بصماتهم الفنية؛ لدينا هذه الضرورة..
□ أثناء الرسم هل تدرك جودة ما تقوم به؟
ـ لطالما اعتقدت أن القماش الأبيض يشبه السرير الكبير، حيث تحدث أشياء قوية جدا وناعمة جدا، أشياء مروعة ورائعة. أعتقد أن هناك علاقة مع الفعل الجنسي. يوجد في القرن العشرين فن جنسي. على سبيل المثال، بيكاسو وبولوك، وغيرهما الكثير. عالم رسمي لا تظهر فيه الإثارة الجنسية، أنا رسام الوحوش. هذا يتناقض مع حياتي: أحب المرأة والجمال. قال لي الملك، «متى ترسمني؟» أجبته: «كيف يمكنني، بما أنني أرسم الوحوش فقط؟.»
□ وبالنظر إلى ماضيك، كيف تراه؟
ـ من وجهة نظر حيوية ومحبة، أجده جميلا جدا وغنيا جدا. أنا راض عن ذلك. من وجهة نظر العمل، أعتقد أنه كان عليّ أن أعمل أكثر من ذلك بكثير. هناك فترات تبدو متفرقة، لأنني عملت كثيرا، لكن دائما بشكل متقطع ودوري. بسبب شخصيتي. لا يمكنني الاستمرار في الرسم لفترة طويلة، يجب أن أفعل أشياء أخرى؛ أرسم وأرسم أغلفة كتب أو أقرأ، والسفر كذلك يعجبني حقا.
□ لكن ربما يكون كل هذا الوقت الضائع مفيدا، حيث تحتاج إلى استخدامه بهذه الطريقة للعودة إلى الرسم.
ـ لا شك في أن هذه طريقة لإعادة شحن البطاريات، وكان الأمر صعبا، لأن كل عودة للرسم مؤلمة جدا. عليك أن تجد النفس والآليات. الرسام يعمل بعقله، بمرفقه ويديه ويجب أن يكون هذا المثلث مدهونا جيدا. نحن بطيئون في استعادة السيولة. المثلث حساس لأنه يتمتع بميزة القدرة على التعبير عن الأفكار.
□ أنت رسام تحب الكتابة عما تفعله. كما لو كنت بحاجة إلى نظرية ما؟
ـ الأنشطة الفنية تخضع لأفكار مختلفة. هناك فكر أدبي لا علاقة له بالفكر التشكيلي أو الموسيقي. فهي محددة ولا يمكن تلوثها. ما يحدث هو أن ممارسة هذه الأفكار تثري بعضها بعضا. لكن العملية التي تنتقل من الفكرة إلى الفكرة مختلفة تماما. أعتقد أن الفنان، على الرغم من أنه لا يحتاج إلى أن يكون مثقفا، يجب مع ذلك أن يكون ذا ثقافة إنسانية كبيرة. تجربتي تقول لي إنه لا يوجد حقا فنان غير متعلم. نتحدث عن غويا كفنان غير متعلم وغريزي – إنه غريزي، لحسن الحظ – لكنه ترك لنا عبارات تثبت أن وراء رسوماته ثقافة عظيمة؛ عندما يقول، في تقريره إلى الأكاديمية، إنه يرى في الطبيعة فقط الظلال التي تتحرك للأمام والخلف، فهو يعرف الفن الحديث قبل أي شخص آخر. ونحن نعرف مكتبة جيريكو وفيلاسكيز.
□ في أوائل الستينيات، كانت رسوماتك سياسية للغاية، أليس كذلك؟
ـ أصبحت الثقافة مسيّسة لأنه من المنطقي أن تصبح مسيّسة. لكن رسوماتي لا تصبح أبدا فنا للدعاية السياسية. لقد رسمت الصور التي اعتقدت أنني يجب أن أرسمها. لقد صنعت بعض الأعمال بحجج محددة، أو أغلفة كتب أو تسجيلات، لكن دون أن أخون أسلوبي التشكيلي الخاص بي. لا أعرف؛ عندما يتعلق الأمر بالرسم الاحتجاجي، لم أرغب أبدا في التصرف بعقلانية. نشأت في داخلي لأنها كانت في الهواء. لا أؤمن بالفن السياسي، وهناك القليل جدا مما تم القيام به تحت هذا الاسم يستحق العناء.
□ ما أردت أن أقوله هو أن التكييف السياسي لبداياتك قد ميز أسلوبك إلى الأبد، وأنك واصلت تغذية هذه الاكتشافات.
ـ نعم، يبدو هذا متناقضا ويقودني إلى تناقض خطير. عندما يقول مؤلفون معينون إنه في لحظات الأزمات والقمع يظهر فنانون مثيرون للاهتمام، فهذا شيء فظيع وخطأ. أعتقد أنه إذا كانت هناك حريات في إسبانيا بدلا من ديكتاتورية فرانكو، فإن الفن والأدب الإسباني والموسيقى ستكون أكثر إثارة للاهتمام. كل ما فعلناه كان «ضد» وليس «مع» وهذا يدل على أن السلبي لا يمكن أن يكون فنا؛ ولا حتى كطارد.
□ عندما انتهى القمع لم تحدث أمور عظيمة.
■ وهذا أمر مؤسف. اعتقدنا جميعا أن هناك أعمالا مخفية، خاصة في الأدب. الفنانون الذين لم يتمكنوا من إظهار أشياء معينة. ولم يخرج شيء. ما يدل على أن ما لا تفعله في الوقت الحالي، لا يمكنك فعله أبدا. لا نجد اللحظات الذهنية مواتية لظهور إبداعات معينة.
□ إنها للأجيال القادمة.
ـ نعم، لأنه ليس عليك أن تكون متواضعا. يجب ألا تعتقد أن عملك هو أشياء من التفاهة؛ لا، أنا لا أحب التواضع الزائف، كل فنان لديه شكل من أشكال النرجسية؛ وإلا فإنه لن يفعل الأشياء بصعوبة وشغف كبيرين.
□ كثيرا ما يقال إن الوقت يضع الأشياء في مكانها. هل هذا يخيفك؟
ـ بالطبع. الوقت هو مكنسة كبيرة. أعتقد أنني أرسم بنوع من القدرية، ويبدو لي أن لوحاتي جيدة؛ إذا لم أصدق ذلك، فلن أرسمها. أعتقد أنها جيدة وأود حقا أن تستمر، وأن يتم التعرف عليّ في المستقبل كفنان جاد رسم بدقة وحاول الوصول إلى مركز كثافة التعبير.
□ هل تخشى الموت؟
ـ لا حقا، لا أفكر في الأمر، في التواري والغياب، لكنني لا أراه بعيون الخوف، لكنه كشيء طبيعي يحدث للجميع. لكني أشعر بأنني «مكثف» رسام «مكثف»
□ كما تقول، ضاحكا، لا أصدق ذلك.
■ صدقني، هذا مؤكد. إنها مثل تلك الأوبرا التي لها خاتمة لا نهاية لها، خاتمة من العذاب، لكنها جميلة بشكل خيالي.
وقد تحققت نبوءته بالنسبة للأجيال القادمة، بعد وفاته قامت إحدى بناته الثلاث – مارين ساورا (1957) – بإنشاء مؤسسة فنية لعرض وحفظ أعمال والدها بشكل دائم في جنيف. وأصبحت هذه المؤسسة متحفا راقيا وملتقى أهل الفن والثقافة. كما توجد فيه صالات للعرض والمحاضرات ومكتبة، والأرشيف الكامل للفنان انطونيو ساورا.
ناقد ومترجم مغربي