منذ أن دشّن الراحل محمد أركون مشروع نقد العقل الإسلامي في سبعينيات القرن العشرين، وهو يؤكد ويردد بأن الأمر يتعلق بمشروع كبير يحتاج إلى فتح عدة أوراش، من أجل مباشرة عمليات الحفر والتنقيب في تلك الطبقات المتراكمة، عبر عصور طويلة من تاريخ العرب والمسلمين. ورغم إدراكه صعوبة المشروع فقد كان مقتنعا بأنه سيأتي الوقت الذي سينهض المثقفون العرب والمسلمون للقيام بهذه المهمة، فذلك هو السبيل الوحيد للخروج من مرحلة الانسداد التاريخي، الذي تعيشه الشعوب العربية الإسلامية في العصور الحالية.
ولعل ترجمة أعمال محمد أركون إلى اللسان العربي، تعد أحد المداخل الكبرى التي من شأنها أن تتيح لنا إمكانات مباشرة الطريق الذي شيّده الرجل، وكرّس له مسار تأليفه، ووعيا منه بالمسألة أطل علينا هذا الموسم الثقافي الجديد عبد اللطيف فتح الدين رئيس شعبة الفلسفة في كلية بنمسيك – الدار البيضاء المغرب، إطلالة بهية ومشرقة من خلال توقيعه على ترجمة أنيقة وأصيلة لمجموعة من النصوص المهمة لمحمد أركون، جمعها في مصنف اختار له عنوان: «الإسلاميات التطبيقية وأسئلة العقل الإسلامي» الصادر حديثا عن منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود 2020.
الحج في الفكر الإسلامي
يستمد هذا الكتاب قيمته من جهة أولى انطلاقا من كون محمد أركون يعتمر فيه قبعة الباحث الأنثروبولوجي في التراث والواقع الإسلاميين، من خلال تسليط الضوء على ثلة من الموضوعات الأنثروبولوجية مثل، ظاهرة الحج. ومن جهة ثانية كونه يعمل على تبديد سوء الفهم الذي لحق مشروع نقد العقل الإسلامي.
يقول محمد أركون إن قواعد الفهم تفرض ضرورة الكشف عن الجانبين النفسي والتاريخي لظاهرة الحج، بوصفه فرضا قائما على غايات روحية، بيد أن الحج بما هو شعيرة، يفصح عن وعي وخبرة أنثروبولوجبة تنبجس منها إشكالات فلسفية وكلامية، عمل محمد أركون على استنطاق إوالياتها ورهاناتها، خصوصا أن الحج بات الظاهرة الدينية الأكثر إثارة للانتباه في الحياة الإسلامية المعاصرة. ويرفض محمد أركون تحليل ظاهرة الحج اعتمادا على القراءة التقليدية للنص الديني، ويعوضها بالتحليل اللغوي المصحوب بالتحليل التاريخي، انطلاقا من فحص البنيات الأنثروبولوجية والنفسية والاجتماعية الثاوية خلف الدلالات اللغوية للنص القرآني، وخلف مختلف أنماط شرحه وتفسيره وتأويله، من طرف أهل الخطابات المهيمنة.
ويذكر محمد أركون أن المسلمين يغفلون الظروف النفسية والسوسيولوجية حول الحج في الخطاب القرآني، التي تم تحجيمها وتغييبها إثر رَكنها بجانب الأخبار المتناثرة، التي تسرد أحوال مجتمع عربي «بدائي» يتخبط في غياهب الجهل، في حين يركزون في الخطاب القرآني حول الحج على البعد العمودي، الذي أقره وأسسه التنزيل والوحي، الأمر الذي دفع محمد أركون إلى بسط قول حول نشأة الحج في الإسلام من الزاوية النفسية والتاريخية، عبر استنطاق جدلية الحج والوعي الإسلامي، بدون أن يحيد «عن الطريق الوعر الذي يسلكه أهل الورع، ذلك الضمير ذو الحس المرهف الحريص، الذي يخشى تضييع جزء من الكلام الإلهي المحيي، أو التفريط في القواعد التي يوجبها الفهم». (الإسلاميات التطبيقية وأسئلة العقل الإسلامي، ترجمة عبد اللطيف فتح الدين، منشورات مؤسسة مؤمنون بلاحدود 2020).
ويتخذ محمد أركون من ظاهرة الحج مثالا للتدليل على الاستمرارية، التي لازمت حقلا تعبيريا تعبديا يتصل بتاريخ مجموعة عرقية ثقافية معينة، ومع رهاناتها وتطلعاتها وحاجاتها أكثر من اتصاله بالدين الإسلامي
ويتخذ محمد أركون من ظاهرة الحج مثالا للتدليل على الاستمرارية، التي لازمت حقلا تعبيريا تعبديا يتصل بتاريخ مجموعة عرقية ثقافية معينة، ومع رهاناتها وتطلعاتها وحاجاتها أكثر من اتصاله بالدين الإسلامي، بيد أن «القوة التي طبعت هذه الانطلاقة كان من شأنها أن غيرت معالم الأشياء والأماكن والحركات والسلوكات المؤلفة لمسار الحج التعبدي، وحولتها إلى ركائز ومقومات رمزية تنهض عليها تجربة روحية غنية» (المرجع نفسه). ولعل هذا ما دفع أركون إلى العودة إلى آيات الحج في القرآن، وتحليلها بنقلها إلى حقل جديد من حقول الفهم والتأويل، وقد خرج إثر ذلك باستنتاج مفاده أن التغير الذي عرفه الحج من طابعه الوثني إلى طابعه الإسلامي هو «فعل ينم عن واقعية اجتماعية سياسية، وعن إبداع دلالي، فعل يمكن للدارس أن يتتبع أطواره، ويقتفي مراحله، ويلتقط قرائنه وعلاماته اللغوية في القرآن الكريم» (المرجع نفسه)، إذ يحيل الحج في القرآن على تجربة أنطولوجية ترفع الوعي العربي إلى مقام المفارق، «إن في طقوس الحج وشعائره من التعدد والاعتباطية ما يجعل المؤمن، الذي يؤديها حريصا متذللا، ينتهي، طال الزمن أو قصر، إلى تلك الحالة الصميمية من العشق الإلهي التي تغدي كبرى التجارب الدينية» (المرجع نفسه).
ولا يخفي أركون شعوره بالأسى لما لحق الحج من إفراغ عقلي من قبل أهل الشرع، حيث هيمن الحج الشرعي على الحج العقلي، الذي يمثله التوحيدي والغزالي والقاضي سعيد، والإمام جعفر الصادق، يقول محمد أركون: «إن كلمة الفصل تبقى من نصيب القاعدة التي فصلها الشرع، علما أن بعض الأقطاب، الذين قادتهم جرأتهم إلى ترجيح كفة الحج العقلي، على كفة الحج الشرعي، لاقوا الاستنكار والتنديد من قبل القيمين على أمور الحياة الدينية في الإسلام وهم الفقهاء، ومن حيث إن الغلبة كانت لنص القانون على روحه، يجدر بنا الحديث عن حدوث رجوع إلى المجال الوجودي المغلق، بعد أن كان القرآن قد أحل محله عالما دلاليا منفتحا». صار من الصعوبة بمكان التمييز بين البعد الديني والمهام الأخرى الدنيوية للحج، بعد التغير الذي شهدته الشروط المادية للقيام بالحج، ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر، إثر تقدم الملاحة البخارية، وبناء السكك، وتطور التدابير الصحية والأمنية، وتعميم استعمال السيارات والنقل الجوي والتلقيح. كما يدل البعد السياسي للحج على الانتقال به من الديني إلى الدنيوي، من المقدس إلى المدنس، حيث يعد الحج بالنسبة لكل دولة إسلامية مناسبة سنوية لتوطيد وتقوية تماسك الجماعة الإسلامية، يقول أركون: «بقدر ما كان الحج يعني فترة هدنة في مكة، بقدر ما تؤدي الاحتفالات إلى تناسي العداوات المحلية، وتقريب بين العائلات والطبقات الاجتماعية، وتمنح المجتمع برمته لحظة تلاق معنوي. في هذا العمق الشعبي يؤدي الإسلام دوره كاملا، باعتباره عامل توحيد أيديولوجي وقوة محركة للأعمال التاريخية الكبرى، كحروب التحرير، أو المحاولات الحالية للبناء الوطني، وعلى نطاق أوسع تماسك الأمة، المجسد في التجمع الهائل في عرفات، يتحقق بفعالية، بقدر ما يستثير قوة النماذج الثقافية التقليدية وقوى الماضي التي لا ينقطع مفعولها» (المرجع نفسه).
أما على المستوى الاقتصادي، فمعلوم أن الحج ينعش انتقال ثروات وأنشطة محلية، ما يدفع بعض الدول إلى الحد من عدد الحجاج سنويا، من أجل تفادي النزيف الحاد الذي تشهده العملة. وعلى المستوى النفسي يظهر الحج كفرصة تمكن الأفراد من تلبية انتظاراتهم المتنوعة، بدءا بالآخرة وصولا إلى نجاح صفقاتهم المربحة، فـ»العديد من الناس يمتثلون لواجب شرعي، فيما آخرون يقررون الوفاء بنذر شخصي (ممارسة شائعة لنيل شفاعة الأولياء) امتثالا لأمر تلقوه، خلال حلم، من النبي، أو من ولي محلي، أو للظفر بمكانة اجتماعية مرموقة، أو لإشباع فضول مؤجج منذ الطفولة، بحكايات أولئك الذين سمعوا أو رأوا». (المرجع نفسه).
تدل وظائف الحج المتعددة، التي بسطها أركون على التداخل القائم بين الدين والتاريخ وبين المقدس والمدنس، والجماعي والفردي، بين التطلعات الروحية والمنجزات المادية. غالبا ما يتم رفض إخضاع التجربة الدينية لمحك النقد السوسيولوجي والأنثروبولوجي والتاريخي، والتحليل النفسي والسيميائي واللساني، بدعوى أن هذه الحقول المعرفية تذيب الشأن الديني في غياهب النسبية، في حين أن هذه الحقول العلمية «تطهر الديانات من الشوائب المودعة فيها من قبل العديدين المتلاعبين بالمقدس، وهي بذلك تلتقي تماما مع انشغال دائم لدى المتصوفة، الذين شهدوا كلهم وناضلوا من أجل تجربة أنطولوجية غير قابلة للاختزال في المظاهر المعتادة للحياة الدينية.» (المرجع نفسه).
أصبح الفكر في الفضاء الإسلامي فكرا يرتكز على إواليات أيديولوجيا الكفاح والأصولية الدينية منذ سنة 1945، في حين كانت الذات العربية المسلمة خلال القرن الثاني عشر منارة ترخي أشعتها المبهجة على منظومة القيم
مفهوم العقل الإسلامي
إن التعريف الأساسي للعقل الذي ينطلق منه أركون هو التالي: العقل الإسلامي مثله مثل العقل اليهودي والعقل المسيحي، رغم الاختلافات العقائدية والشعائرية، هو عقل ديني لاهوتي، في مقابل العقل العلمي الفلسفي الحديث. إذن فالعقل الإسلامي في نظره ليس شيئا مطلقا وأبديا، وإنما هو صيغة من صيغ العقل، معنى ذلك أنه عقل تاريخي له بداية ونهاية، مثله مثل أي عقل يتشكل في التاريخ. كما حاول أركون في الكثير من الدراسات والبحوث أن يرد على الاعتراض التالي، الذي بدا له أساسيا وله أهميته، والذي يرى أن العقل إذا كان واحدا فينبغي أن لا يكون إسلاميا أو مسيحيا، بل ينبغي التعامل معه على أنه عقل نقدي، يسعى إلى المساءلة النقدية ويرفض الانغلاق داخل حدود أي دين أو طائفة أو مذهب، لأن وظيفة العقل هي الكشف الحر عن الظواهر والمسائل والقضايا، خارج نطاق هيمنة الأحكام المسبقة أو الأطر الطبقية عرقية كانت أم دينية، فالعقل البشري إذن واحد صالح للجميع وينطبق على الجميع: «لقد كانت الدعوة إلى عقل أزلي منسجم قبليا مع تعاليم الوحي دائما حاضرة، ليس فقط في مختلف مدارس الفكر الإسلامي، بل أيضا في اليهودية والمسيحية. فالإيمان بالمعطى الموحى به يعضد، وينير، ويرشد العقل البشري، الذي إن ترك لحاله، لا يملك إلا أن يهيم على وجهه. لقد تم في الإسلام تعميم الاعتقاد بأصل إلهي للعقل يضمن التأصيل الأنطولوجي لعملياته، بذلك الحديث الشهير المستوحى من نظرية الفيض: «إن أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، فقال: وعزتي ما خلقت خلقا أكرم عليّ منك، فبك آخذ وبك الثواب وبك العقاب».
مكانة ابن رشد في تاريخ الفكر
أصبح الفكر في الفضاء الإسلامي فكرا يرتكز على إواليات أيديولوجيا الكفاح والأصولية الدينية منذ سنة 1945، في حين كانت الذات العربية المسلمة خلال القرن الثاني عشر منارة ترخي أشعتها المبهجة على منظومة القيم، ولعل ابن رشد أحد أعمدة هذه المنارة: «إن الشيء الأصيل، الذي أتى به فيلسوف قرطبة في إطار هذا الصراع، إنما يتمثل في كونه أقدم على تجريب الأرسطي، في إطار (LOGOS) الملائمة الفلسفية التي للغوس عملية تأويل كلام الله المنزل باللسان العربي، في ما يخص الدين الإسلامي». (المرجع نفسه). لم يقلل ابن رشد قط من شأن علم الكلام ومن موقفه اتجاه ما هو معطى منزّل، بقدرما عمل على توضيح ثراء العقل الفلسفي الذي يستوعب كل المكونات والطرائق وأساليب الخطابة الفعالة من الزاوية الفكرية: «إن هذه اللمسة الفكرية، موضوعة في سياق القرن الثاني عشر اللاتيني والعربي واليهودي والإسلامي المسيحي، كانت لمسة خلاقة مبدعة ترتبط أكثر بالدفاع عن (أنوار) العقل البشري المعقلنة منها بالذود عن أرثوذوكسية كلامية محصورة في حدود عشيرة عقدية ما».
منزلة ابن طفيل في تاريخ الفكر
يدعو محمد أركون إلى ضرورة إخضاع حي بن يقضان لمحك القراءة النقدية المتفهمة، قراءة لا تتردد في استنطاق ما تحمله كل القراءات، بما فيها قراءة أركون نفسه، من مشروعية أبستمولوجية وملائمة منهجية، وذلك بالنظر إلى قيمة هذا المصنف الذي ينم عن « قناعة فيها قوة وحمية، وعن شراسة في التعامل مع ما يحيط بالدين من تعبيرات شعبية». الأمر الذي جعل هذا المصنف يحظى بقيمة عظيمة داخل الفكر الغربي المسيحي، فـ»في قارة أوروبية متشبعة بالعقلانية وبالمنهج التجريبي، لن نستغرب إشادة ليبنز بكتاب الفيلسوف العصامي الذي نشره بوكوك انطلاقا من اللسان العربي… كما سيسهل علينا فهم نصيحة سبينوزا إلى أصدقائه لقراءة حكاية ابن طفيل. من المحقق أن مبادرات حي الأولى وجهوده من أجل السيطرة، بوساطة الفكر العقلي، على العناصر الطبيعية، تنسجم مع مسعى العلم الوضعي، لو تم تبنيها وتطويرها داخل أطر سوسيوثقافية ملائمة. والواقع أن هذه الأطر بالذات، هي التي تتقوى شوكتها في الغرب، بينما كانت ريحها قد ذهبت في الفضاء العربي الإسلامي». (المرجع نفسه).
٭ باحث من المغرب
روح الإسلام بأول نظام حكم مدني بالعالم أنشأه محمد (ص) بالمدينة سماحة وسطية اعتدال ومكارم أخلاق وحفظ نفس وعرض ومال وأسرة ومجتمع وعدالة وحروبه طوعية دفاعية لتحصيل حرية تعبير وليس استعباد وفوقية وقنص ثروات، ومرجع دين الإسلام آيات قرآن نزلت على محمد (ص) مع أسباب وظروف نزول كل آية وتصرفاته قولاً أو عملاً تفسيراً أو تنفيذاً لكل آية إضافة لتعاملاته قولاً أو عملاً بكل ظرف فاكتمل الدين قبل وفاته، أما قصص التاريخ بعد محمد (ص) ليست مرجع بل يحدد صوابها أو انحرافها بنسبة تناغمها أو تناقضها مع الدين المكتمل.