يحتدم الجدل هذه الأيام حول ما يسمى بالإسلام السياسي، وتلك تسمية عنصرية مبطنة ترنو إلى نبذ الذين ينادون باعتماد الإسلام مرجعية في الحكم والتشريع، ويستند المنادون بها لمرجعية العلمانية في الدول الغربية، من دون الاهتمام بالسيرة التاريخية للمجتمعات الأوروبية التي دخلت في مواجهة مع الكنيسة، على يد رائد الحركة الإصلاحية لأوروبية القس مارتن لوثر 1483-1546عندما كانت تتحكم بملوك أوروبا، وتحظر على الناس الخوض في معتركات العلوم والأبحاث العلمية، لأنها كانت تنظر إليها بعين الشك والريبة وتخشى من تداعيات نتائج أبحاثها على سلطتها، عندما كانت تهيمن على كل مناحي الحياة، وخير مثال على ذلك ما حصل للعالم الفلكي غاليلو 1564-1642 عندما قال بأن الأرض تدور حول الشمس.على الضفة الأخرى كانت الدولة الإسلامية في الأندلس دائمة التنافس مع الدولة الإسلامية العباسية في الشرق، حيث كانت عاصمتها بغداد تعتبر محجاً لطالبي العلم، عندما كانت الحضارة الإسلامية تقود الحضارة الإنسانية باكتشافاتها في كافة ميادين الطب والفلك والرياضيات والفلسفة، وحتى علم الاجتماع الذي لم يكن ليعرف لولا ابن خلدون الذي قام باستحداثه، لأنه لم يكن على قائمة الدراسات الإنسانية المعروفة. أوروبا ومستشرقوها لا ينكرون أن الحضارة الإسلامية هي التي حفظت التراث الحضاري للبشرية، عندما تمكنت من تدوينه وتبويبه واستيعابه، ومن ثم البناء عليه حتى قامت بتحقيق قفزات علمية نوعية هائلة في كافة المجالات العلمية في حقبة تاريخية امتدت خمسمئة وتسعين عاماً (1060-1650) حسب جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية. كم كانت دهشتي كبيرة بينما كنت أتابع برنامجاً عن الحضارة الإنسانية على قناة (ديسكَفري الأمريكية) عندما قال مقدم البرنامج، ‘لو افترضنا عدم انبعاث الحضارة الإسلامية وما قدمته للحضارة الإنسانية من إنجازات لما كنا نعيش اليوم في هذا العصر الذي نحن فيه، ولربما تخلفت البشرية مئات الأعوام عما وصلت إليه اليوم’. وتابع يقول..’ان ما فقدته البشرية من الكنوز العلمية في عام 1258عندما تم احتلال بغداد من قبل المغول وحرقهم لمكتبتها وللآلاف من الكتب، التي غيرت لكثرتها لون مياه نهر دجلة، قد أدت لفقدان البشرية ما لا يقل عن مئة عام من الإنجازات العلمية’. أوروبا تعترف بأن علماءها كانو يغرفون العلوم والمعارف من المسلمين، ويعترف مؤرخوها بأن أهل الأندلس سبقوهم في علومهم التجريبية والمخبرية، وحتى معادلاتهم الرياضية التي كانت إيحاءاتها سبباً في بعث حركاتهم الإصلاحية التي دفعت بقوة نحو الانعتاق من ظلامية المحرمات إلى فضاءات العلــم وآفاق المعرفة، ليؤدي ذلك إلى قيام أوروبا بالتقـــاط الراية الحضارية للبشرية منذ ذلك الحين. نقطة تحول إذاً كان لأوروبا أكثر من مبرر لفصل الدين عن الدولة، بسبب قيام رجال الدين باستغلال سلطتهم لبناء جدارٍ سميك يحول بين شعوبهم والمعرفة والعلوم التطبيقية التي تحتاجها هذه الشعوب وكل شعوب البشرية، من أجل إيجاد الحلول الناجعة للمشاكل التي تصاعدت وتيرتها مع الانفجار السكاني العالمي، الذي بدأ يضع مزيداً من الضغوط لتلبية الاحتياجات الإنسانية المطردة التي فاقمت من الالحاحات الديموغرافية والأخلاقية، التي ألقت بها على كواهل السلطات الحاكمة في تلك المجتمعات. هذه الظروف الموضوعية الخاصة بالشعوب الأوروبية أدت إلى فكرة العلمانية، التي أسس لها قادة الإصلاح، أمثال فولتير ورسو وغيرهما، بدت ضرورية كمخرج وحيد للتحرر من سلطة الكنيسة أولاً، ومن ثم تدرجت لتطرق أبواب قصور الحكام الذين كانوا يحتكرون السلطة ويمارسون الدكتاتورية في الحكم، مما أدى إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية وانتشار المجاعات التي ولدها نظام الاقطاع عندما كان يُسخر الشعوب لخدمة الأغنياء، حتى انتشرت في ما بعد ظاهرة دكاكين العرق أو ما يعرف بِـ(سوِت شوبس) حيث أدى ذلك كله إلى تسريع وتيرة عمل الحركات الإصلاحية، وبروز المصلحين الذين نادوا بالعدالة الاجتماعية ومن ثم ممارسة الضغوط لتقنين سلطات الملوك وتفعيل صلاحيات متزايدة لممثلي الشعب، إلى أن وصل الأمر لتحويل الملوك إلى رموز وطنية فخرية بلا سلطات، لتولد الديمقراطية التي قامت بوضع آلية واضحة لتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، ومن ثم جعل البرلمان الذي يمثل الشعب مصدراً لكل هذه السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية). من الواضح أن فكرة العلمانية لم يكن لها ما يبررها عند الشعوب الإسلامية، لأن الدين الإسلامي أثبت أنه احتضن العلماء وشجعهم حتى بلغ الأمر بالخليفة المأمون أن يكافئ كل عالم أو شاعر أو أديب يأتي بما لم يسبقه إليه أحد، بمكافأة مالية من الذهب، لتكون الدولة الإسلامية قد سبقت العالم بتخصيص المكافآت القيمة للعلماء. جذور أسباب دعم الحكام للعلوم تعود للعقيدة الاسلامية التي حضت على العلم بقوة في القرآن الكريم، وفي الأحاديث النبوية الشريفة، حتى أن أولى الآيات التي نزلت على الرسول الكريم بدأت بأمر القراءة والتعليم، حيث قال الله سبحانه (إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الأنسان ما لم يعلم) والقرآن حافل بالمفردات العلمية التي لا يتسع المجال لذكرها هنا، مع ضرورة التذكير بالأحاديث النبوية التي حفزت المسلمين على طلب العلم ولو في الصين، أو ما ورد فيها من انقطاع عمل ابن آدم إذا ما مات إلا من ثلاث، أحدها… علم نافع يُنتفع به، فإنه يستمر بإضافة الحسنات إلى صاحبه بعد موته، وحتى أنه حرم على كل من يعرف علما نافعا أن يحتكره أو أن يحجبه عن الناس. الدولة الإسلامية لم تكن يوماً دولة غوغائية ولا شمولية ولا استبدادية حتى يقوم فيها عمر ابن الخطاب بإنصاف القبطي من ابن عَمر ابن العاص، ويقوم فيها المسلمون بتسليم درع الرسول الكريم لليهودي الذي كان له دَيْن عليه، وقيام عمر أيضاً باستحداث الضمان الاجتماعي، عندما أمر بصرف مرتب لليهودي العجوز الذي وجده يستجدي، حيث قال مقولته المشهورة (أنأخذ مالك شاباً قوياً ونتركك عجوزاً هرماً). لقد أردت من خلال هذا السرد التاريخي التنويه إلى أن التيارات العلمانية في العالم العربي لا تملك الحق في حظر التفكير على المسلمين، الذين يرون أن الإسلام يصلح كنظام شامل يستطيع أن يتعاطى مع الناس بآلية حضارية يسودها العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، ويستندون في حجتهم تلك على نجاحات الغرب، مع أن التاريخ لم يسجل على الدولة الإسلامية أيا من الأمراض التي مرت بها الشعوب الأوروبية، حيث يرى الإسلاميون أن التاريخ يشهد بشكل موثق على أن حالة الانحطاط التي تعيشها شعوبهم، إنما ظهرت بعد ان ابتعد حكامهم عن الإسلام الحق، وقاموا بتقليد الأنظمة الغربية، التي مرت بظروف تاريخية خاصة لا تنطبق على الشعوب العربية التي لم تكن نداً للأمم الأخرى، إلا عندما كان يحكمها نظام الإسلام الحنيف الذي وفر مظلة آمنة لكل أتباع الديانات الأخرى، وأن الخطوط البيانية لمسار حضارتهم وانحطاطهم تؤشر إلى الصعود في عصور الحكم الإسلامي، وتشير للهبوط في عصور الابتعاد عنه. لماذا تبيح التيارات العلمانية لنفسها حق المطالبة بفرض حجر على تفكير الناس في السياسة، برؤية تستند إلى وعيهم الديني وإلزامهم بعلمانية التفكير والتعبير والسلوك؟ إذا كان هؤلا يدعون الديمقراطية، فلماذا يتمردون على صناديق الاقتراع إذا ما انحازت غالبية الشعب إلى الخيار الإسلامي؟ أليس من واجبهم الانصياع لإرادة الأغلبية مثلما انصاعت الدولة الفرنسية لحكم الشيوعيين عندما فازو بالانتخابات؟ لا أظن أنهم يملكون الحق بالمطالبة بسن الدساتير التي تحظر ما يسمونه بالإسلام السياسي، لأن الإسلام دين ولد من رحم السياسة وتقلد حامل رسالته منصب الرئاسة في الدولة التي أسسها لأول مرة في تاريخ جزيرة العرب، حيث مارس فيها السياسة بكل نجاح وإتقان باعتراف مشاهير المستشرقين، وترك فيها للناس شِرعة المبايعة بعد كل قائد لكي يبايعوا من يظنون أنه الأكثر كفاءة وحكمة وعلما. الواقع الراسخ في العالم العربي والإسلامي هو أن كل مسلم يؤدي الفرائض ويدين بالإسلام فإن السياسة تجري في عروقه جري الدم في الجسد، ولا يملك إلا أن يزن الأشياء بميزان الوازع الديني الذي يعتبره المرجعية العظمى في حكمه على الأشياء من حوله. وعليه فإن أي محاولة لترحيل الفكر العربي الإسلامي إلى فناء العلمانية الغربية من خلال محاولة طمس الدين في حياة هذه الشعوب ستبوء بالفشل وستؤدي إلى عواقب كارثية على المنطقة، لأن الإسلام المستوطن في جوارح هذه الشعوب سيدفعها للدفاع عنه بكل قوة. نحن على يقين بأن شطب الإسلام السياسي من الخارطة السياسية يستدعي اجتثاثه، وهو غير قابلٍ للإجتثاث لو اجتمع عليه من في الأرض جميعاً.