كان مصمم الباليه الفرنسي موريس بيجار مغرماً بصوت أم كلثوم، عاشقاً لأغانيها، وبعد أن اعتنق الإسلام، قام سنة 1979 بتصميم رقصة الإشراقات Les Illuminations على أنغام أغنية قصيدة «تائب تجري دموعي ندما» التي تغنيها أم كلثوم/ من كلمات عبد الفتاح مصطفى، وألحان رياض السنباطي.
وكان أول من أدى هذه الرقصة، راقص الباليه الأرجنتيني جورج دون، الذي التقى به بيجار للمرة الأولى في إحدى زياراته إلى الأرجنتين، وكان لا يزال في السادسة عشرة من عمره، ومنذ ذلك الوقت ظل في فرقة باليه بيجار إلى أن توفي في عمر الأربعين. كان جورج دون هدية القدر الثمينة إلى موريس بيجار، وكانت خسارته عظيمة وفقده هائلاً، وإن أتى من بعده الكثير من الراقصين المهرة في الفرقة، حيث يمكن وصف جورج دون بأنه الراقص الكامل، الذي يمتلك اللياقة الجسمانية والقوة البدنية، ومرونة الجسد الحالم، ودقة التوازن وسرعة الدوران على الأرض أو في الهواء، والأذن الموسيقية بالغة الرهافة والحساسية شديدة الاتصال بالإيقاع والنغم، ونبرات الصوت البشري. وفوق كل ذلك كان يمتلك قدرة تعبيرية هائلة، تظهر من خلال عينيه وملامح وقسمات وجهه، وكان إحساسه الداخلي ينعكس على حركاته بدرجة كبيرة، ويتجلى اشتعاله الروحي وتظهر علاماته على سائر الجسد، ويمكن للمرء دائماً أن يلاحظ الفرق الكبير بين أداء جورج دون وأداء الآخرين للرقصة نفسها.
تتناول القصيدة التي تغنيها أم كلثوم موضوع التوبة، وتحتوي بعض مقاطعها على مناجاة لله سبحانه وتعإلى، وتصف بعض مقاطعها الأخرى آلام الندم، والرحلة الروحية التي شهدت نوعا من الصراع الداخلي، والحيرة النفسية والفكرية، وصولاً إلى الاختيار النهائي وحسم الأمر، والتعرف على الرغبة الحقيقية التي ترضي النفس والروح. قد يبدو غريباً اختيار موريس بيجار لهذه الأغنية، لكي يصمم من وحيها رقصته الرائعة، لكن من يعرفه ويتابع فنه لن يتعجب كثيراً، ولن يندهش من انفتاحه على الثقافات الشرقية بشكل عام، وتوظيفه للموسيقى العربية أو الهندية، على سبيل المثال في بعض أعماله.
وعلاقة موريس بيجار بالموسيقى تميزه كثيراً إلى جانب كونه من أهم مصممي الباليه ومحدثي هذا الفن في العالم. وكان ينجذب دائماً إلى القطع الموسيقية الصعبة، كالسيمفونية التاسعة لبيتهوفن وبعض مؤلفات سترافينسكي ومالر وغيرهما، كما لا يخفى ولعه بالفلسفة التي نشأ وتربى في ظلها كابن لفيلسوف، وتظهر فرادة انجذاباته الموسيقية في اختياره لهذه الأغنية تحديداً من بين أغنيات أم كلثوم الكثيرة والمتنوعة، ولا يمكن عدم ربط هذا الاختيار باعتناقه للإسلام، وهو ما تدل عليه حركات الرقصة بوضوح أيضاً، والتصميم الذي يدل على فهمه العميق للكلمات ومعانيها وملامسة هذه المعاني لروحه وتأثره بكل حرف تنطقه أم كلثوم، وبالآهات التي تغنيها المجموعة، وبنغمات رياض السنباطي، التي تخلق في النفس الشعور بالرهبة والخشوع أحياناً، وبالسكينة والسلام في أحيان أخرى، لا تزيد مدة الرقصة عن 12 دقيقة، لكن المشاهد لا يشعر بقصر الوقت، لأنها ثرية تمتلئ بالحركات المتنوعة والتعبيرات الجسدية المختلفة والإشارات الروحية، الصريحة وغير الصريحة، وإن كان بيجار قد ارتبط بهذه الأغنية لأسباب معروفة، مكنته من تصميم رقصة أتت على هذا القدر من الجمال والدقة والحساسية، فإن أداء جورج دون لهذه الرقصة هو ما يثير الدهشة بالفعل، لا لتمكنه من تنفيذ خطوات بيجار وحركاته بمهارة مذهلة، بل لتفاعله الروحي مع الموسيقى والغناء، فأقل إيماءة أو التفاتة مفاجئة، أو حركة تتغير بشكل ما، مع حرف تنطقه أم كلثوم، تدل على مدى قدرته على التناغم مع موسيقى ولغة وأفكار قد تكون بعيدة عنه كل البعد.
في النسخة المصورة من هذه الرقصة، يوجد بعض المونتاج، فيظهر جورج دون وكأنه يؤدي دورين لشخصين مختلفين، أو يظهر كذات لها ذات مقابلة، ربما لتصوير الصراع داخل النفس الواحدة، أو انتقال الشخص من مرحلة إلى مرحلة أخرى، ومن حالة وجدانية ونفسية معينة، إلى تكون وتشكل روحاني جديد، لكن الذات الأخرى لا ترقص ويقتصر أداؤها على تعبيرات الوجه، والتموضعات الجسدية الساكنة. يدخل جورج دون من يسار المسرح وعلى جسده رداء أبيض طويل، فيخلعه ويسلمه إلى الذات الأخرى، وكأنه أسلمها شيئاً من الروح. من يشاهد الرقصة يشعر بأن أذن بيجار كانت مع صوت أم كلثوم أثناء التصميم إلى جانب الموسيقى بالطبع، لكن تأثره يبدو دقيقاً جداً بالغناء الذي يتبعه مأخوذاً بأصغر تفاصيله.
يؤدي جورج دون هذه الرقصة بجسد ناطق وبحركات ناطقة، وتعتمد بعض الحركات على قوة الفخذين والساق الداعمة، عندما يلف ساقا على الأخرى أو عندما يضرب بعقبه، وكذلك يعتمد الأداء أحياناً على مرونة البطن مع صلابة باقي الجسد واستقامته في الحركة الواحدة
فالجسد يكون حساساً تجاه الكلمة وطريقة نطقها، فيتكسر مع تكسر الحروف، ويلين ناعماً مع التنغيم، ويتألم مع الارتفاعات الحادة، ويستسلم مستكيناً مع الخضوع والخشوع، ويبدو الراقص وكأن الكلمات تتفرق وتذوب في جسده، ويكون منصتاً بشدة طوال الوقت، متصلاً بالصوت البشري تمام الاتصال. لم يجعل بيجار الرقص متصلاً مستمراً طوال الوقت، فهناك فواصل قسمته إلى أجزاء، وربما إلى مراحل، فلا يوجد رقص مع الآهات المؤتلفة القوية التي تفتتح الأغنية، وتتكرر بين المقاطع التي تغنيها أم كلثوم، وإنما بعض المشي التوقيعي الخفيف، والوقفات الموحية والكثير من تعبيرات الوجه أيضاً. كما في بداية الرقصة عندما يدخل جورج دون إلى المسرح بردائه الأبيض ويسير بخطوات وئيدة. ويرفع ذراعه اليمنى عاليا ثم يضعها على كتفه اليسرى، قبل أن يخلع الرداء وكأنه ينزل عن كتفيه حزناً ثقيلاً، ولا يبدأ في الرقص إلا عندما تبدأ أم كلثوم في الغناء، قائلة «تائب تجري دموعي ندما، يا لقلبي من دموع الندم» وقد جعل بيجار مجموعة من الحركات تصاحب ذلك المقطع وتتكرر مع الحركات كلما كررته أم كلثوم. لكنه في النصف الثاني من الأغنية منح المقطع ذاته مجموعة أخرى من الحركات، أما جورج دون الآخر غير الراقص، الذي يظهر في النسخة المصورة، فإنه يبتسم أحيانا وتدمع عيناه في أحيان أخرى، ويتواصل مع فضاء ما في دهشة وانجذاب، وربما في وجل وخوف.
كما منح بيجار تلك الرقصة بعض الحركات والإشارات الفريدة، كوضع الراقص يده اليمنى على جبهته، ثم إنزالها على شفتيه وتقبيلها، ليضعها على قلبه بعد ذلك، وكذلك نوم الراقص على الأرض والتصاق خده بها، بعد أن تغني أم كلثوم «ليتني ذبت حياءً كلما جدد العفو عطاء المنعم». والميل إلى الوراء مع الارتكاز على الركبة وتحريك الذراعين إلى أعلى بنعومة، بما يذكر قليلاً ببعض حركات الرقص الشرقي، وكذلك تموجات البطن السريعة الخاطفة والخصر أيضاً، مع قول «عانق الشيطان في صدري الملاك». وحركة الذراعين باتجاه الأرض، كأنها تمسح شيئاً عنها، مع قول «فارتمى حاضري يمسح جرح الألم» والانبطاح التام على الأرض أيضاً ثم ملامستها بيده اليمنى، ووضعها على قلبه ثم شفتيه ورفعها عالياً بعد أن يقبلها، وقد استلهم بيجار بعض حركات الصلاة من ركوع وسجود ووضع قراءة التشهد، والتسليم يميناً ويساراً، في الجزء الأخير من رقصته الذي يصاحب صوت أم كلثوم، عندما تغني قائلة «يا إلهي شاقني هذا الوجود، تلك دنياك فما بال الخلود؟ عز قدري بك في ظل السجود» ويبدأ ذلك بارتفاع اليدين إلى أعلى مع قول يا إلهي، ثم حركات تشبه الركوع والسجود قليلاً، ويكون وضع قراءة التشهد هو الأكثر وضوحاً، وكذلك التسليم عندما يحرك جورج دون رأسه إلى اليمين ثم إلى اليسار، ومن الحركات اللافتة بحق في هذه الرقصة، هي تلك الالتفاتة الخاطفة المفاجئة عند سماع صوت الناي، الذي يدخل بارزاً في أحد أجزاء الأغنية، وعلى الرغم من أن هذه الالتفاتة لا تأخذ سوى ثوان، أو ربما ثانية واحدة، إلا أنها مؤثرة جداً أثناء الرقصة بأداء جورج دون، وتعبيرات وجهه التي لا مثيل لها.
حيث يشتعل إحساسه، وتتصل روحه بمصدر الصوت الذي ينظر في اتجاهه، ويتوق إليه كأنما حلت في نفسه رغبة تفوق كل الرغبات الأخرى، هي رغبة الروح الخالصة في التعرف على هذا الصوت الذي لامسها بقوة، ومع تواصل الخطوات على امتدادها يظل الراقص في حالة توحي بأنه لا ينقطع عن التفكير في شيء ما، ويبدو كمن مُنح قوة جديدة، أو كمن تخلص من آلامه، بعد أن يرتمي على الأرض كنفس لا حيلة لها، والتصق بها، وعاد إلى أحضانها أو إلى طبيعته الأولى. يؤدي جورج دون هذه الرقصة بجسد ناطق وبحركات ناطقة، وتعتمد بعض الحركات على قوة الفخذين والساق الداعمة، عندما يلف ساقا على الأخرى أو عندما يضرب بعقبه، وكذلك يعتمد الأداء أحياناً على مرونة البطن مع صلابة باقي الجسد واستقامته في الحركة الواحدة، ويمتزج جورج دون بالغناء وتهزه أنغام الموسيقى، وتصل الكلمات إلى أعماق نفسه، فيظهر الجمال المضمر في الرقص، وهذا التصميم الذي تمثل في خاطر بيجار بفيض من الفكر والعاطفة والخيال.
كاتبة مصرية
تحياتي للكاتبة البارعة القلم الرشيقة الكلم السامية المعنى والمبنى كالهرم.ذكّرتني صورة الهرم خوفو ومن خلفه هرم خفرع ثمّ هرم منقرع عند أبي الهول في جيزة مصر المحروسة ؛ يوم وقفت أمام ذلك ( الثلاثيّ ) الخالد ؛ وأنا أمتطي صهوة الجواد…ولا تزال الصورة لديّ ؛ تحمل الشوق المتجدد…فعند أهرامات الجيزة عزفت سمفونيات وأديّت رقصات وصدحت أغنيات ؛ وحولها ألتقى العشاق ولا يزالون في ( السيّارات ) وهم يتبادلون زقزقة العصافير همسات.شكرًا مروة على ذوقك الرفيع الجميل ؛ ففيه عذوبة مغنى المواويل…مودتي وتقديري لبنت النيل.
شكرا دكتور جمال ولك كل المودة والتقدير
بعض الكلمات أدا سمح لنا المنبر المتميز في حروفه وكلماته وكدالك الكاتبة المحترمة شكرا نحن كنا من جملة الدين أستمعوا لصوت الفنانة المتميزة أم كلثوم في أغانيها المعطرة باالشعر الفصيح والعامي كدالك لكن المتميزة عن غيرها وبعضها يجعل القلب يرقص يمينا ويسارا على رغم أنفه ومن اي جنسية كان شرقيا غربيا شماليا جنوبيا وقلنا غير مامرة أن الشعر أسراره كثيرة ونغماته الموسيقية كدالك والعجيب أن أسارره لم يظهر منها شيئا لحد الساعة لازال محافظا عليها نعم سيدتي أم كلثوم من الباب الواسع للفن دخلت ومصر كدالك الشعر يعلوا بصاحبه لازالت لنا كلمات أخرى
سلام بلي محمد. أنا كمصرية أتعجب قليلا من تأثر بيجار بصوت أم كلثوم وفهمه للأغنية إلى هذا الحد.
عودة أسرع من البرق ومع احتراماتي أقول أسراره بدون ألف فااليسمح لنا القارئ المحترم حيت ماوجد فااللغة العربية لها قواعد ومن جملتها النحو ولاعراب شكرا
….ما أجمل هذا المقال…!
شكرا لك
كل التحية والتقدير للكاتبة الحساسة التي استطاعت بشكل جميل وقوي في توصيف الرقصة والراقص لتنقلنا إلى المسرح وتدفع لنا تذاكر الدخول، وذلك بأسلوبها العربي الفصيح وكلماتها المنتقاة واهتمامها بأدق التفاصيل. عبدو من الجزائر
كل التحية والتقدير للكاتبة الحساسة التي استطاعت بشكل جميل وقوي في توصيف الرقصة والراقص لتنقلنا إلى المسرح وتدفع لنا تذاكر الدخول، وذلك بأسلوبها العربي الفصيح وكلماتها المنتقاة واهتمامها بأدق التفاصيل. عبدو من الجزائر
شكرا لك