راهن لويس ماسينيون (توفي في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1962) على القلب كعَضَلَة تتسع وتستوعب القدرة على تحمّل متاعب البشر، وعلى دوام الصبر على الأزمات والمآسي والمُعْضلات، ولعلَّ حالة الاستعمار التي عاصرها ماسينيون في القرن العشرين، واحدة منها. فحاول أن يلتمس لها ليس العقل والسياسة فحسب، بل القلب والعرفان أيضا. فقد دخل ماسينيون عالم السياسة من خلفية دينية، وما تستوجبه الكنيسة من الرأفة بالآخرين، خاصة من هم في حالة عوز وحيف وإجحاف، على ما هي عليه الشعوب الإسلامية ومنها الجزائر.
توسّم ماسينيون في القلب القدرة الفائقة والسعّة الكافية لفض نِزَاعَات البشر، وأنظمة الحكم، وعلّق عليه، باعتباره رجل دين خادم الكنيسة الكاثوليكية، من أجل أن يلج مجال السياسة الفرنسية والدولية، أي في نطاق الوضع الاستعماري في الجزائر، وفي سياق إشكالية الشرق والغرب، كما ارتسمت ملامحها ومعانيها مطالع القرن العشرين. فالتجربة التي خاضها ماسينيون لحل قضايا الاستعمار استوجبت منه عدم الاقتصار الحصري على السياسة، بل مرادفتها بالثقافة الدينية والعرفانية، وبالإصغاء إلى صوت العقل والاهتداء بنور الحكمة.
كل مصادر المعرفة ووسائل التسوية مرحب بها ومحمودة عند ماسينيون، لا يمكن بحال الاستغناء عنها، لأن الواجب الإنساني الكبير أن لا يُغَلّب مصدر على مصدر آخر أو وسيلة على وسيلة أخرى. وأصل الاستعمار أنه التمس «الكل السياسي» بحيث لم يترك لباقي مصادر المعرفة ولسائر مجالات التسوية أي فرصة للتحليل والتعقل والمعالجة وتمكين صوت الحكمة. الإنخراط في قضايا المقهورين، يعني عند ماسينيون الالتزام الوجداني والمعايشة الروحية لهمومهم وتراثهم، الذي مكنهم في حقبة من حقب التاريخ الإنساني من الحضارة والفكر والمدنية، ولعّل هذا التراث الذي ينقص فرنسا والغرب في الوقت الراهن. وعليه، ففكرة الانخراط أو الالتزام بقضايا الناس الذين تخاطبهم الكنيسة وتدعو إلى مواساتهم ورعايتهم والارتقاء بهم إلى مستوى الفاعل الذي يتكفل بمساره ومصيره، يلح على البحث عن توظيف مصادر أخرى يزخر بها «الداخل البشري» و»التراث الإنساني» لكافة الشعوب على اختلاف دياناتهم وأصولهم وروحانياتهم.
عندما يصبح الإرهاب ظاهرة عالمية، فمعنى ذلك أنه صار يتغذى من سياسة دولية أرادها فعلا كبار هذا العالم
يشرح ماسينيون هذه الحالة التي يجب أن تتوفر في الماسك بالقدرات التقنية لكي يساعد على تجاوز الوضع المفارق والمتناقض المنافي للتاريخ ولتعاليم الكنيسة: «ليس من السهل أن أدعي أنني استوعبت بالقدر الكافي القدرة على الانخراط الصوفي مع الإسلام والبلدان الإسلامية، لكنني أريد أن أقف معهم وحيث هم وأمامكم (الفرنسيين والغرب بصورة عامة)، في موضع القادر على فهمهم عن كثب وأقرب إلى نفسيتهم. فقد فكرت في الموضوع من باب التحليل النفسي، كما تعلمته من المحلل النفسي يانغ، الذي كان يعرف كيف يلج بمودة لمشاكل الناس في بساطتهم. فقد شفاني من الخشية ومن الاستعلاء الحقير للمثقف، الذي يفقد كل تواصل اجتماعي، ويغفل الحقيقة التالية، أن المطالب السياسية التي يجري التعبير عنها بشكل غير واضح والأكثر وخزا للضمير والشرف الشخصي، هي التي تكون في الغالب صادقة وعميقة ومؤسسة». فمن أجل تسوية المعضلات والخروج من وهاد المآزق والأزمات، نحتاج من جملة ما نحتاج إلى القلب والروح ورياضة النفس واستلهام عالم الموت والآخرة والماوراء. فكما للحقيقة في الفلسفة مصادر أخرى غير العقل، مثل الحكمة، الحدس، الحواس، اللاوعي، فإنه للقلب أيضا قدرة فائقة، لمن يحسن التوظيف والبحث عن الحقيقة، على إدراك القضايا والمسائل في أبعادها ومستوياتها المختلفة، والسياسة أحد هذه الجوانب وليست كلها. فالقلب موضع المودّة والمحبة والضيافة والمشْفَى والضمير، خاصة عند اللقاء مع الآخر المختلف.
في مشروعه إذن، الرامي إلى توظيف مصادر أخرى لفهم وتَعَقّل الظاهرة الاستعمارية، تبنى ماسينيون الفكر العرفاني، الذي استوحاه من تجربة المتصوف أبي منصور الحسين الحلاج. وعن الحالة التي لازمت ماسينيون المثقف والداعي إلى السلام ، يقول معاصره المفكر المصري إبراهيم مدكور: « آمن ماسينيون بالحقيقة النَّقلية إيمانه بالحقيقة العقلية، وقضى حياته في تعمق أغوارها، والكشف عن أسرارها، سواء لديه، أتلقاها عن عيسى أم عن محمد. كان يرى أن للعقل حدودا يقف عندها، وأن الوحي والإلهام يصل ما انقطع، وما يربطنا بعالم اللانهاية. الحقيقة النَّقلية خالدة خلود الدهر، يقينية يقين الإيمان، تمتزج بالروح والقلب، وتتفق لمن تدبر مع النظر والعقل. وهي فوق هذا أقرب إلى نفوس الجماهير، وألصق بحياة الشعوب، وأصلح للمجتمع». فقد كانت تجربة حياتية ومصيرية استغرقته بالكامل، لا ليحل بها مأساة المستضعفين الرازحين تحت النير الاستعماري فحسب، بل لانتشال المستعْمِر ذاته من الانحراف الخطير الذي آل إليه، عندما خالف تعاليم الكنيسة والحداثة في كافة مظاهرها وتجلياتها. فقد تَنَكَّرت فرنسا لمبادئ الثورة الفرنسية والإنجازات العظيمة التي تمت على مستوى الفكر والعلم والفن والتقنية والتكنولوجيا، التي تعد نعم الله إلى خلقه.. وطوبى لمن تكن له القدرة على توزيعها على الآخرين وإشراكهم فيها. واليوم، وفي قراءة بعد كولونيالية، نرى أن ما نعانيه اليوم من مآسي يعزى في مجمله إلى صدّ السُّلط الاستعمارية عن تفعيل تراث الأمم «المتَخَلِّفة» وعدم السماح لشعوبها بالاندراج ضمن مؤسسات الدولة العمومية. فقد كان الفعل الاستعماري قوة بحتة لا تقبل أي تعاون مع الأهالي، ومن ثم صرفهم عن أي إمكانية ترفعهم إلى مصاف المواطنين. ولا نخال أنفسنا نخطئ عندما نقول إن الفضل كله يعزى إلى الحركات الوطنية والإصلاحية في البلدان المستعمرة، وإلى الحركات الإنسانية المناهضة للاستعمار في المتروبول، التي حاربت وناضلت، بما يمليه الوضع الحديث من أجل التحرر والاستقلال وإرساء نظم الحكم، ليس بالتعاون والتفاهم مع السلطة الاستعمارية، بل ضدها، كما أن خروج المستعمر لم يكن برضاه بل كرهًا وضد ممثلي السلطة الوطنية المقبلة.
لعلّ أعظم قضية نمثّل بها في هذا المقام، هي ما يعرف في عالمنا اليوم بالإرهاب الذي صار حالة دولية، تواضع «النادي الإمبريالي العميق» على إلصاقه بالجماعات الإسلامية المتطرفة، وكأن الحالة الدولية ليست انعكاسا للحالة الوطنية، كما تؤكد بنية السياسة الدولية، التي تتلاعب بها الدول الكبرى في غياب تام للشخصيات العظيمة ذات الأخلاق المنفتحة على العالم كله. فالتحليل العميق لمسألة الإرهاب الديني، متأتية من محاولة طمس الديني وإعدامه أصلا لكي لا تكون له أي مساهمة في حياة البشر، وإبعاده كإمكان للشعوب المغلوبة سابقا من محاولة إنعاشه كأفضل بديل لما هو قائم، الذي يتطلع دائما إلى تجاوز «الكل السياسي»، أو»الكل الأمني» أو»الكل العسكري». فقد توارت السياسات الحصرية وولّت ولم تعد كافية لرسم برامج الإنماء والتقدم ليس للأوطان فحسب، بل لكل المجتمع الدولي.
إن الشخصيات التي تصدر مواقفها عن روح وعقل نير ، يحدوها الأمل القريب في الأمن والإستقرار والسلام، لا ينطلي عليها أن الإرهاب صناعة دولية، تضطلع بها القوى ذات النفوذ الأممي عابر الأوطان، على ما تفعل الصهيونية والإمبريالية وغلاة الرأسمالية المتوحشة وزبانيتها. صحيح أن الإرهاب حالة فاسدة على مستوى الأوطان، بعد ما التمسته الجماعات المتشددة لمواجهة النظم الوطنية الفاسدة هي أيضا. لكن عندما يصبح الإرهاب ظاهرة عالمية، فمعنى ذلك أنه صار يتغذى من سياسة دولية أرادها فعلا كبار هذا العالم. فعندما سخَّر الرئيس الأمريكي بوش الابن سياسة دولية لمحاربة تنظيم «القاعدة»، أثمرت هذه السياسة ميلاد تنظيم إرهابي أكثر فتكا وعنفا هو تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يجري تدميره حاليا، بعد ما استنفد دوره المطلوب في سياسة «النادي الإمبريالي العميق».
كاتب وباحث جزائري
شعرت نفسي أني أقرأ لشكيب ارسلان
فشكرا للمقال الرائع
أما قولكم
(وكأن الحالة الدولية ليست انعكاسا للحالة الوطنية)
فقديما قالوا الناس على دين ملوكهم
كذلك التهميش والاقصاء هماالسبب في ولادة ردات الفعل السلبية
وسمعت الرئيس الأسبق مبارك يقولها للصحافة الإسرائيلية
المساكين الفلسطينين غلابة مستبيعيين(غير مبالين بحياتهم) بحكم ظروفهم الصعبة
أشرقت نورا ساطعا للدين
فدعيت عن حق بنور الدين!