الخرطوم-“القدس العربي”:بعد قرابة الشهرين من إسقاط نظام عمر البشير في السودان، يرى كثيرون أن أجهزة الإعلام المختلفة لا تزال تدار بعقلية النظام القديم وأن التغيير فيها يتم ببطء شديد وعبر مبادرات فردية في غالب الأمر، وحسب الكثيرين فإن الصحف لا تعبّر عن التغيير الذي حدث وكذلك القنوات الفضائية والإذاعات.
تحريض على قمع الثورة
ويقول صحافيون إن الرقابة القبلية والبعدية تقلصت بعد التغيير الذي حدث مباشرة إلى حد ما، لكن أثر ذلك لم يظهر خاصة على الصحف التي يدير أغلبها مناصرون لنظام البشير، وبعد مرور أيام من زوال العهد الماضي، بدأ كتّاب هذه الصحف يحرضون المجلس العسكري على قمع الثورة وفض الثوار.
وطالب عدد من الصحافيين بالسماح بتقديم بلاغات ضد المتهمين بالتحريض وحث السلطات الأمنية على قمع المحتجين، ومنهم عدد من رموز الإعلام في عهد البشير والذين ما زالوا يكتبون في الصحف حتى اليوم وعلى رأسهم الطيب مصطفى وهو ناشر سابق وكاتب صحافي.
تغطية الإضراب
وفي الأسبوع الماضي، نشر صحافيون في مجموعة خاصة بهم على موقع التواصل الاجتماعي “واتسآب” معلومات من مصادر مختلفة تشير إلى أن الأجهزة الأمنية تواصلت مع عدد من مديري القنوات ورؤساء تحرير الصحف وحذرتهم من تغطية أخبار الإضراب، وطالبت بالتقليل من نشاط تغطية ميدان القيادة ونقل تصريحات من قوى الثورة، كما وجهت قناة “الشروق” العاملين بعدم التعامل مع أخبار وتغطية الإضراب.
ويعتبر إضراب الصحافيين يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، أكبر خطوة لهم في دعم الثورة، فلأول مرة منذ عقود طويلة لا تصدر الصحف في الخرطوم بسبب إضراب العاملين، وساهم في نجاح الإضراب مشاركة العاملين والإداريين، خاصة فنيي الطباعة الذين يقومون بتجهيز الصحف قبل دخولها للمطبعة.
وأشادت شبكة الصحافيين في السودان بالمشاركة الواسعة في الإضراب وقالت في بيان لها: “ويجيء هذا الإضراب والقاعدة الإعلامية والصحافية تشهد هجمة شرسة من قبل السلطات في مشهد عاد معه شبح القمع على وسائل الإعلام المختلفة”.
تهديد بالفصل
ووجهت بعض الصحف بالتحقيق مع منسوبيها الذين شاركوا في الإضراب، صحيفة “المجهر السياسي” على سبيل المثال، لكن في المقابل، أعلنت إدارات بعض الصحف السياسية السودانية فتح أبوابها لاستيعاب صحافيين تعرضوا للفصل ومنهم من تعرض للتهديد بالفصل من صحفهم على رأسهم مجموعة من الصحافيين في جريدة “المجهر” المملوكة للهندي عز الدين وعقوبات أخرى حال إصرارهم على الاستمرار في الإضراب العام. وأكد عدد من رؤساء التحرير ترحيبهم بزملاء المهنة الذين يتعرضون للقمع وتضييق الحريات مناصرة لحرية التعبير والعدالة التي تنشدها الثورة المنتصرة لممارسة نشاطهم بحرية ومهنية تامة.
انتقادات
ووجه ناشطون انتقادات واسعة لجهازي الإذاعة والتلفزيون الرسميين بعدم مواكبتهم أحداث الثورة ومحاولاتهم تضليل الرأي العام، في الوقت الذي أصبحت فيه أخبار السودان في مقدمة نشرات القنوات العالمية مع تغطية واسعة على مدار اليوم.
وانخرطت قنوات عديدة في محاولة لقتل الثورة إعلاميا قبل الحادي عشر من شهر نيسان/أبريل الماضي وهو اليوم الذي أزيح فيه البشير، وتعرض الطاهر حسن التوم مدير قناة “سودانية 24” لهجوم واسع عبر وسائل التواصل لموقفه ضد الثورة مما حدا بإدارة القناة لتوقيفه عن العمل بعد التغيير، وتعرض كذلك حسين خوجلي صاحب قناة “أمدرمان” لحملات واسعة بسبب استخفافه وسخريته من الثوار ويواجه حاليا بلاغات حول أموال مشبوهة.
وبسبب مواقفهم من الحراك الشعبي فقد العديد من الإعلاميين السودانيين وظائفهم بالإقالة أو الاستقالة وأبرزهم المعلق الرياضي في قناة “سودانية 24” حاتم التاج الذي عقدت له لجنة محاسبة عقب ترحمه على الشهداء وأوصت اللجنة بفصله بعد أن توصلت إلى أنه ترحم “بانفعال عال”.
ارتباك المجلس العسكري
وظهر ارتباك المجلس العسكري في مجال الإعلام بتعيين عبد الماجد هارون (وهو أحد كوادر نظام البشير) في منصب وكيل وزارة الإعلام بعد أيام قليلة من الإطاحة بالبشير، لكن الضغط الشعبي جعل المجلس يلغي هذا القرار خلال أربع وعشرين ساعة فقط. ويرى مراقبون أن رموز إعلام النظام السابق هم الذين يديرون الأجهزة الرسمية حاليا، الأمر الذي جعل المتلقي لا يشعر بأي تغيير في شكل أو مضمون ما يقدم من محتوى عبر هذه الأجهزة.
ويعاني العاملون في الأجهزة الرسمية من قيود تكبل عملهم استمرت حتى بعد التغيير الذي حدث ولم يتحسن الأمر حتى بعد تعيين جمال الدين مصطفى مديرا لهيئة الإذاعة والتلفزيون وهو مهني قديم ووصف بأنه لا يتبع لمنظومة عهد البشير.
موكب الإذاعة والتلفزيون
وسيّر العاملون في الإذاعة والتلفزيون موكبا في الثاني من شهر أيار/مايو الماضي وطالبوا بضرورة إحداث تغيير جزري في إدارات هذه الأجهزة وحملوا لافتات تطالب بإبعاد الكوادر الأمنية من هذه الأجهزة. وجاء في بيان لهم: “إننا نتطلع في هذه الهيئة لفجر جديد من الحرية بلا تقييد أو تكبيل بإزالة التهميش الذي مارسه النظام السابق” وحسب البيان، فإن عددا كبيرا من منسوبي المؤتمر الوطني (حزب البشير) ما يزالون على قمة هذه الأجهزة.
وطالب العاملون في الإذاعة والتلفزيون بإتاحة الفرصة لهم “لممارسة إعلامية جديدة، حرة، واثقة، تقوم على المهنية والمؤسسية، بلا تمجيد لنظام ولا تعظيم لأشخاص ولا جهات، مؤكدين أن هدفهم هو الوطن والمواطن، يعبرون عن الغايات، ويرضون الأذواق والتطلعات”.
وحاول العاملون في جهازي الإذاعة والتلفزيون تبرئة أنفسهم من التغطية غير الجيدة للحراك الشعبي بقولهم: “إن الانتماء المهني لهذه الأجهزة يجعلنا نجأر بالشكوى وننادي بأن تكون الثورة هي طوق النجاة التي تبقى الإذاعة والتلفزيون في المحيط الإعلامي الذي يضج بالمنافسة وتجويد الأداء وإثراء المضمون، وذلك لا يتأتى إلا بثورة تزيح قلاع الجمود وتكسر عوائق الإبداع وتجد الحلول الناجعة لكل القضايا سالفة الذكر”.
وطالب العاملون في الإذاعة والتلفزيون بوضع قانون للهيئة (إذ أنها وحتى الآن تعمل بلا قانون) وكذلك الإسراع في إجازة هيكل وظيفي بشروط خدمة مجزية “تغري المواهب من ذوي القدرات والمهارات وتحفظ للقائمين على العمل الحق في حياة كريمة”.
وشملت احتجاجات الصحافيين وكالة السودان للأنباء “سونا” حيث قاموا بتسيير أكثر مظاهرة لمباني الوكالة مطالبين بضرورة تحرير الوكالة من الرموز والتابعين لنظام البشير ولا يزال كثيرون غير راضين عن محتوى الوكالة وتغطيتها حتى اليوم على الرغم من بعض التغيير الذي حدث في الفترة الماضية.
عودة قمع الإعلام
وشهدت الفترة الماضية عودة قمع الإعلام، فقد أقدمت استخبارات الجيش واستخبارات الدعم السريع على منع الإعلاميين: وائل محمد الحسن، وحذيفة عادل، وانس رضوان، وسبت ودا، والفاتح المبارك، وعلاء الدين عبد الله، من دخول مباني التلفزيون، في أعقاب الوقفة الاحتجاجية التي دعا إليها تجمع الإعلاميين السودانيين أمام مباني التلفزيون في أمدرمان، الأسبوع الماضي، حيث اعتقلوا وأُخضعوا الى (احتجاز غير مشروع) و(تحقيق دون مسوغ قانوني) من قبل عناصر تابعة لاستخبارات الجيش واستخبارات الدعم السريع.
وسبق ذلك منع تنظيم وقفة احتجاجية أمام مباني التلفزيون وإغلاق شارع النيل وهو الوحيد المؤدي لمباني الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون وتفتيش المارة بصورة شخصية ومنعهم من المرور.
وعلى صعيد متصل، أطلقت السلطات الأمنية حملة من الاعتقالات وسط الناشطين والإعلاميين، فقامت باقتحام وكالة “رماتان” الإخبارية، واعتقلت عددا من الصحافيين، وصادرت أجهزة الوكالة بالكامل.
المجتمع الصحافي يناضل
ويقول الصحافي علاء الدين محمود إن الحال لم يتغير كثيرا بعد سقوط نظام البشير، ويرى أن أسلوب النظام البائد لا يزال ساريا في إدارة العمل الإعلامي خاصة في الإذاعة والتلفزيون ووكالة السودان للأنباء وبعض الصحف. ويضيف لـ”القدس العربي”: “لكن الثورة مستمرة والمجتمع الصحافي يناضل بقوة من أجل تغيير حقيقي وقد أثبت نجاح الإضراب أن الصحافيين بدأوا يفرضون أنفسهم ويمثلون ورقة ضغط لا يستهان بها”.
وعلى صعيد العمل النقابي قامت مجموعة من الصحافيين بتكوين لجنة تمهيدية لاسترداد نقابة الصحافيين، وأثارت هذه الخطوة جدلا واسعا حيث وصفها البعض بالمتسرعة وقال آخرون إنها محاولة لشق الصف الصحافي. ويقول علاء الدين محمود إن الجميع في توق لتكوين نقابة صحافيين حرة لكن الخطوة التي قام بها البعض شابها الكثير من القصور وجاءت بشكل متعجل وتخطت العديد من الإجراءات التي ينبغي القيام بها في مثل هذه الحالات.
وأعاد المجلس العسكري في السودان النقابات إلى الواجهة من جديد بعد أن قام بحلها في وقت سابق ومن ضمنها اتحاد الصحافيين وأعلنت اللجنة التمهيدية لاستعادة نقابة الصحافيين السودانيين رفضها للقرار، وأكدت مناهضتها له بكل الأساليب السلمية.
وطالبت اللجنة التمهيدية لنقابة الصحافيين عبر مذكرة قدمتها للمجلس العسكري، بإصدار قرار يقضي بحل الاتحاد العام للصحافيين السودانيين واللجنة الحالية وإبطال أي قرار صادر عنها منذ تكليفها من قبل مسجل عام تنظيمات العمل واعتبارها كأنها لم تكن.
لا تغيير ولا مواكبة
ويرى الصحافي والمحلل السياسي عبد الحميد عوض إن الإعلام السوداني لم يتغير ويواكب ما يحدث في السودان، وذلك بسبب عدم وجود قناعة حقيقية بالحدث الكبير (التغيير) ويقول لـ”القدس العربي”: “يشعر المتابع أن كل الإعلام السوداني المتمثل في الإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء الرسمية والصحف، لا تعكس ما يحدث من حراك وتطورات كبيرة وكأنها غير موجودة في مواقع الأحداث”.
ويشير إلى أن العقلية القديمة وسيطرة الرقيب الأمني (حتى لو كان غير موجود) هما السبب في ذلك، ويورد ملاحظة مهمة هي أن المتلقي السوداني لا يزال يحصل على أخبار بلاده من الخارج عبر القنوات العربية مثل “الحدث” و”الجزيرة” أو العالمية مثل “فرانس 24” أو “بي بي سي”.
صحافة لا تواكب الخبر
وفي وصفه للصحافة يرى أنها غير مواكبة بالمرة للحدث خاصة في مفهومها للخبر، ويضيف: “في حين أن كبريات الصحف العالمية ومواقع الإنترنت، تتابع الشأن السوداني على مدار الساعة عبر تحديث مواقعها بكل جديد، تنتظر الصحف المحلية الذهاب للمطبعة ليلا والخروج بأخبار الأمس في الصباح”. ويرمي باللوم في التقصير على قادة قوى الحرية والتغيير، ويرى أن مثل هذا التغيير الكبير كان يجب أن يواكب بخطة إعلامية ضخمة وقيام مؤسسات خاصة تتمتع بإمكانات كبيرة، ويخلص إلى أن تغطية ما يحدث حاليا عبر الأجهزة المحلية يشوبها كثير من الارتباك.