لم ينخدع بقشرة الديمقراطيّة في الأنظمة الغربيّة – وقائمتها الطويلة المملّة من القيم المزعومة عن فصل السلطات وحقوق الإنسان، كما حق المواطن في الحصول على المعلومات وحريّة الرأي – غير المغفلين أو الغافلين.
دائماً كانت التقارير المطولة، التي تصدرها الحكومات الغربيّة لتقريع الأنظمة القمعيّة المزعجة عن إساءاتها المنهجيّة في حق مواطنيها وتعدياتها على الصحافة، كما مزحة سمجة موسميّة بلا طعم ولا رائحة، تستخدم لأغراض سياسيّة محضة لا علاقة لها بالمواطنين المنكوبين ولا بصحافتهم المغدورة.
لكن الصلف وصل بتلك الأنظمة ممثلة بالأنغلوفون – الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، ومعهم السويد بلاد العم نوبل والسلام – إلى التعرّي تماماً أمام شعوبها والعالم معاً، وسكب لبن القيم الغربيّة المزعومة على الأرض، وتنكّب مسلك أسوأ الأنظمة الديكتاتوريّة علناً على رؤوس الأشهاد، ذلك كلّه لاستهداف شخص وحيد مسالم مسجون منذ ثماني سنوات، وتقديمه مخفوراً أمام محاكمة علنيّة تليق منطقاً وإجراءات بالفعل بمسرحيّات المهرجين في سيرك متجوّل في الريف الإنكليزيّ لتجرؤه على نشر غسيل تلك الأنظمة الفاضح على موقعه الإليكترونيّ، ومنحه المواطنين الغربيين قبل بقيّة العالم الحقّ في الاطلاع على جرائمها المقذعة بحق الإنسانيّة.
جوليان أسانج، الصحافي الأسترالي الجنسيّة وناشر موقع «ويكيليكس» شرع منذ أيّام في الاستماع معتقلاً لمجريات النظر في طلب أمريكيّ قدّم للقضاء البريطانيّ لترحيله إلى الولايات المتحدّة ومواجهة المحاكمة هناك على 18 تهمة تكفي أي منها لتغييبه إلى الأبد – 175 عاماً على الأقل – في سجن يخضع لإجراءات أمنية مشددة يحتجز فيه عتاة المجرمين.
السلطات الأسترالية مارست طوال سنوات تخليّاً لا يليق بمواطنها، وتعاملت معه كما تتعامل الأنظمة العربيّة عند اعتقال مواطنيها في الغرب: كأنّه غير موجود. فيما تولى السويديون تقديم المبرر القانوني لاعتقاله، بينما هو زائر في لندن بناء على شهادات مزعومة ملفقة بالاعتداء الجنسي – سحبت لاحقاً وأغلق الملف بشأنها.
البريطانيّون مارسوا أسوأ أشكال المطاردة للرجل – الذي لم توجه السلطات السويديّة له أيّ تهمة قط واكتفت بطلب الاستماع له – وحاصرته في مقر سفارة الإكوادور بعدما قبلت الأخيرة طلبه للجوء السياسيّ، خوفاً على حياته من مطاردة المخابرات الأمريكيّة، واعتقلوه لدى خروجه هناك بتعسّف قانونيّ وإجرائيّ لا مبرر له، ثم مددت اعتقاله داخل سجن «بلمارش» اللندني المخصص لكبار المجرمين في تجارة المخدرات والإرهاب لمنح الأمريكيين فرصة إعداد طلب استرداد له مفصّل على مزاج السّلطات هناك، ولم تسمح له بإعداد دفاع أو الاجتماع على نحو كاف بمحاميه، وسمح لزوجته بمقابلته وجيزاً بعد ستة أشهر من الإلحاح.
فإذا كان هذا حال الأنظمة والنخب من وراءها كذلك، بحكم سيطرتها على مراكز القوّة وسعيها لحماية مكتسباتها، فما بال الإعلام الغربيّ بجل عناوينه وشاشاته والنصير المزعوم للحريّات عبر العالم، والقادر على خلق كوكب ضجيج كامل من أجل هباءة، يخفت صوته وتبهت صورته عندما يأتي الأمر إلى مسألة أسانج؟
إن استقالة الإعلام الغربي من دوره في الدفاع عن رائد إنسانيّ للحقيقة أو كشف فساد السلطات بالتعامل معه مشاركة آثمة في جريمة استهداف أسانج قد تفقده فرصة النجاة الوحيدة المتبقيّة من خلال ضغط الرأي العام. لكنها – وهذا الأهم – تكشف بوضوح عن تبعيّة هذا الإعلام النهائيّة والذليلة للنخب السياسيّة الحاكمة، وفقدانه للمصداقيّة أو التوازن الموضوعيّ، وتقوضّ بشكل كليّ دوراً مفترضاً للإعلام الصحافيّ كسلطة رابعة وسلاح رقابة مسلطاً كسيف فوق السلطات الثلاث في الأنظمة الديمقراطيّة.
ماذا فعل ليكون موضع تآمر هذه الأنظمة الجبارة معاً؟
في يوم اعتقال أسانج، لدى طرده من سفارة الإكوادور – بناء لصفقة من نظام الإكوادور الجديد مع الولايات المتحدة تضمنت تسهيل الحصول على قروض من صندوق النقد الدّولي – أصدرت منظمة حقوقيّة مرموقة – تدعى المادّة 19 – تصريحاً قالت فيه إن السلطات البريطانيّة، التي تصنّعت أنها تريد الرجل لكسره الكفالة «كانت واقعاً تعمل في إطار تنفيذ رغبة أمريكيّة رسميّة لتسلم أسانج، بناء على اتهامات فديرالية وجهت له عبر القنوات الرسميّة بين لندن وواشنطن بالتآمر لاختراق أجهزة حاسوب تحتوي أسراراً رسميّة أمريكيّة، إشارة إلى مساعدته المجنّدة الأمريكيّة تشيلسي مانينيغ عبر موقع ويكيليكس للكشف عن آلاف الوثائق الرسميّة – أكّدت السلطات صحتها – والتي تتضمن ما يمكن اعتباره إدانة تامّة لتورط الحكومة الأمريكيّة في جرائم حرب وتآمر عالميّة النّطاق.
بالطبع لم يفعل أسانج سوى أنّه تجرّأ على نشر تلك الوثائق – وهو ما فعلته جزئيّاً صحف عالميّة، منها «نيويورك تايمز» الأمريكيّة – مما يجعل التهم الموجهة إليه ضعيفة قانونياً وتتعارض جذرياً مع القوانين الشكليّة لحماية مصادر معلومات الصحافيين وحق النشر.
وماننينغ، التي اعترفت باختراق نظام المعلومات السريّ الأمريكيّ وتنزيل المواد السريّة وتسليمها لـ«ويكيليكس» وحوكمت وسجنت لسبع سنوات قبل عفو الرئيس أوباما عنها، أعيدت إلى السجن مجدداً لانتزاع اعتراف منها عن دور تحريضي لأسانج فيما جرى، وتفرض عليها غرامة يوميّة تتضاعف لرفضها تلفيق شهادة بهذا الخصوص.
السر والحقيقة وراء مقتل نمير نور الدين
بداية العام 2010 أعلنت «ويكيليكس» عن أن في حوزتها تسجيل فيديو مشّفرا لقوة أمريكيّة تقتل مدنيين في العراق، ما لبثت أن عرضتها للعموم. الفيديو كان تسجيلاً لحادثة قتل بدم بارد نفّذتها القوات الأمريكيّة الغازية عام 2007 من على متن مروحيّة أباتشي حصدت برشاشاتها الحربيّة الثقيلة مجموعة من المدنيين العراقيين العزّل في إحدى ساحات بغداد.
كان أحد الضحايا بالصدفة مصوّر وكالة «رويترز» للأنباء نمير نور الدين وسائقه.
وعندما طالبت الوكالة السلطات الأمريكيّة بتوضيحات حول حادثة القتل غير المبررة في منطقة لم تكن فيها أنشطة قتاليّة، نفت مصادر الجيش الأمريكي امتلاكها تسجيلات فيديو للحادثة، واكتفت بوصف الضحايا بأنهم سقطوا عرضيّاً ولم يستهدفوا لذاتهم.
وسربّت لاحقاً على لسان ديفيد فينكل، مراسل «الواشنطن بوست» الملحق بالقطاعات العسكريّة في العراق (نشرت لاحقاً في كتاب «الجنود الطيبّون» – 2009) بأنّه اطلع على فيديو بشأن الحادثة وأن إطلاق النار لم يتعارض مطلقاً مع قواعد الاشتباك المرعيّة من قبل القوات الأمريكيّة، وأن «جنودنا الطيّبون» نفذّوا واجباتهم بحنكة وعلى أفضل وجه.
الفيديو، الذي نشرته «ويكليكس» كذّب تلك الرواية بالكامل.
إذ أظهر بوضوح أن المدنيين، الذين استهدفوا لم يكونوا في أي شكل منخرطين في أيّة أعمال عدائيّة، وبدا قائد الطائرة يطلق النّار بلا تمييز، فيما يعلّق أحد أفراد الطاقم «أنظر إلى هؤلاء القتلى أولاد الحرام» ويقول آخر»هذا جميل».
وفي الفيديو تظهر سيارة مصوري «رويترز» توقفت لإسعاف الجرحى قبل أن يطلب الطيّار الإذن بإطلاق النار ويحصل عليه دون تأخير.
أحد الجنود الأمريكيين، الذي مسح الموقع على الأرض بعد الحادثة بدقائق قال لإحدى المجلات إنّه لم ير في حياته كيف تفتك الرشاشات الحربيّة للأباتشي بالبشر «القتلى المتناثرون على الأرض قد فقدوا ملامحهم تماماً. كان ذلك وكأنه ليس حقيقياً. هم لم يتعرضوا لإطلاق نار بل نسفوا نسفاً»!
وقد وجد اثنان من الأطفال المصابين إلى جانب جثة والدهم، ويشير الفيديو بوضوح إلى أن قائد الطائرّة شاهد وجود الأطفال مع والدهم، لكنّه استمر بإطلاق النار ضاحكاً: «هذي مشكلتهم، لماذا يجلبون معهم أطفالهم إلى ساحة المعركة!».
كشف موقع «ويكيلكس» عبر هذا الفيديو وعشرات الآلاف من الوثائق المسربّة عن بشاعة الأساليب التي توظفها السلطات الأمريكيّة في مختلف المجالات عسكريّة وسياسيّة واستخباراتيّة لمدّ هيمنتها على العالم، ومدى الكذب والاستهتار والنفاق، الذي تمارسه المنظومة الإعلاميّة الأمريكيّة، وخواء كل ادعاء بوجود قوانين وحوكمات وديمقراطيّات وفصل سلطات وعالم حرّ. لقد فضح أسانج أسرار الإمبراطوريّة الفاسدة، وصار لا بدّ من معاقبته.
ليس وحده مستهدفاً: سيكون درساً
تدرك الولايات المتحدة بالطبع الإحراج الذي تتسبب به مسرحيّة المحاكمة، والرجل فعلياً دفع ثمناً باهظاً على الصعيد الإنساني وعاش لعقد مطارداً ومحاصراً ومسجوناً وخائفاً ومبعداً قسرياً عن عائلته.
وقد تردت صحته وتعرض لسوء المعاملة على يد السلطات البريطانيّة، وهناك دعوات – وإن خافتة نوعاً ما لإطلاق سراحه – إذ حتى مانيننغ التي سرّبت الوثائق لويكيليكس سجنت وأعفي عنها – وإن أعيد اعتقالها للابتزاز لاحقاً -.
لكن إصرار الولايات المتحدة على إذلاله والقبض عليه وتغييبه حتى الموت في سجن أمريكيّ رديء والتلاعب بالإعلام لتغييبه، ليس موجهاً لشخص أسانج، بقدر ما هو محاولة لتلقين العبر للجيل الحاليّ برمته وعبر العالم بألا يجهلن أحد على الإمبراطورية الأمريكيّة، ويتجرأ على كشف أسرارها، ومن يفعلها فلا يلومّن إلا نفسه!
خاوية هذه الديمقراطية الغربية على عروشها، وأكثر خواءً منها إعلامها الأخرس بالاختيار، المتأمرك المنابر.
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن
بارك الله فيك ايتها الكاتبة الحرّة على هذه الالتفاتة الانسانية لرجل لم يبخل في نشاطه و على مظلوم الاّ و دافع عليه من فلسطين الى العراق و سوريا و امريكا اللاتنية ، ربما انكِ الكاتبة العربية الوحيدة التي تكتب على رجل شهم يدافع على الشعوب المستضعفة و يعرّي ديمقراطية الغرب المنافقة ،
جبناء وقتله أطفال هؤلاء هم الجنود الامريكان فقط شجاعة الجندي الامريكي تظهر على العزل والبدون سلاح
دور الاعلام هو للتضليل للتخدير لاعطاء حقنه تحت الجلد لغسيل الأدمغه. هل نسينا ترويج
الاعلام لشيء غير موجود ليتم تدمير بلد رأسا على عقب (أسلحة دمار شامل، الأنكى إنها تطلق
خلال 45 دقيقه) كما روّج لذلك من هم الآن حلف المقاوله والممانعه.
الغرب المتوحش..
التحية للكاتبة
الوجه الحقيقي للحكومات الغربية وعلى رأسها أميركا.. وحشية بمظهر أنيق وعصري..
واين هي الشعوب الغربية لتطالب بالحرية لأمثال الحرّ أسانج؟!