نجانب الصواب لو قلنا إن الإعلام الغربي أصابنا نحن العرب بخيبة أمل، ونظلمه لو توقعنا منه منذ السبت الماضي غير ما قدّم. بل الحق أنه ما من خيبة أمل أبدا لأنه لم يكن ثمة أمل أصلا. فقد تكفلت العشرة مع الإعلام الغربي منذ زمن بعيد بتحصين القارئ أو المشاهد العربي ضد خيبات الأمل بعد أن قضت عنده منذ البداية على أي إمكان لتوقع أن يتناول هذا الإعلام، الواثق بموضوعيته وحياده وتغليبه للحقائق على العواطف، أيا من قضايا العرب والمسلمين العادلة، وأهمها القضية الفلسطينية، بما يلزم من الوعي التاريخي والتوازن الإنساني. وكيف يتوفر الوعي التاريخي في العمل الصحافي إن لم يبدأ أولا بالحرص على تنزيل الوقائع، وما يثيره تطورها وتواترها من مسائل جوهرية، في السياق الزمني المديد الشارط للقدرة على رؤية كامل الصورة سواء في شمولها أم في دقائقها؟ وكيف يتوفر التوازن الإنساني إن لم ينبع أولا من الحرص على إيلاء آلام جميع الأفراد والجماعات والأمم القدر ذاته من الاهتمام والتقدير بلا تفريق بين قريب وغريب (ثقافيا أو دينيا أو قوميا)؟
ولكن نظرا إلى أن الإعلام الغربي اعتاد أن يأتي قضايانا وآلامنا وآمالنا متخفّفا من أعباء الوعي التاريخي والتوازن الإنساني فإنه لا يزال مسلما أمره للعادة القديمة المتمثلة في تدشين القضايا بنهاياتها. وقد أرادت له هذه العادة غير الواعية، أو «العادة الخالية من التفكير» كما تقول العبارة الإنكليزية الشهيرة، أن يظل عاكفا على تجزئة الكل وفصل المتصل. ولهذا دائما ما يبدأ من الصفر كلما تعرضت دولة إسرائيل الديمقراطية الخيّرة الفاضلة لاعتداء «إرهابي» لا سبب له سوى رغبة الإرهابيين الأشرار في تدميرها (علما أن كلمة التدمير هذه قد أنست الإعلام الغربي عبارة أقدم هي الرمي في البحر). وماذا يفعل هذا الإعلام الخبير في رؤية شجرة الإرهاب والطاعن في العجز عن رؤية غابة الاحتلال والتنكيل والتهجير والعنف المؤسسي المتجدد كل يوم؟ يعلن خبر العمل «الإرهابي» ويفصّل ويطوّل ويهوّل ويستفظع ويستنكر (فقد لوحظ في نشرات الأنباء على القناة العامة الفرنسية، مثلا، أنه لم يحدث أن ذكر أي مذيع وأي مراسل كلمة حماس إلا مقترنة على الدوام بكلمة الإرهاب رغم أن الكلمة تتكرر في النشرة عشرات المرات، لكأن القوم يؤدون طقسا دينيا أو يقضون دينا سياسيا!) وبعد أن يستفيض ويسهب ويذهب كل مذهب، يأخذ آنذاك راحته في نقل وقائع الرد الإسرائيلي.
نجانب الصواب لو قلنا إن الإعلام الغربي أصابنا نحن العرب بخيبة أمل، ونظلمه لو توقعنا منه منذ السبت الماضي غير ما قدّم
رد لم يأت، ولا يأتي، إلا دفاعا عن النفس طبعا. إذ لم يحدث أن بدأت إسرائيل بالهجوم على أيّ كان وليس من طبعها النبيل أن تكون البادئة بالعدوان، بل إنها دائما وأبدا في موقف دفاع عن النفس. دفاع مشروع، كما يسارع قادة الدول الديمقراطية المحترمة إلى التذكير والتأكيد. يهاجم الإرهابيون (البرابرة، كما يقولون) إسرائيل فتضطر للرد عليهم بكل عقلانية وبكل ديمقراطية. تقتل مئات المدنيين والأطفال وتقصف المستشفيات والمدارس وتفرض على غزة حصارا مطلقا تسد به جميع المنافذ، ولكن الإعلام الغربي يسترسل في اجترار صور المراهقين والمراهقات الراقصين والراقصات على بعد كيلومترات من المراهقين والمراهقات المحرومين منذ سنين طويلة من أبسط مقومات الحياة. وتتهم القيادة الإسرائيلية الرشيدة شعبا كاملا بالبهيميّة وتمنع عنه الماء والكهرباء (ولو كان في وسعها لمنعت الهواء) ولكن لا يخطر ببال أي إعلامي غربي أن يسمي هذه الإجراءات باسمها الحقيقي، من حيث إنها عملية إبادة ممنهجة لا تناسُبَ كميا ولا نوعيا بينها وبين عمليات حمـاس. كما لا يخطر ببال أي إعلامي غربي أن يتساءل ما الذي سبق الآخر: هل أعمال المقاومة هي التي سبقت الاحتلال والحصار؟ هل العنف النضالي هو الذي سبق العنف العسكري؟ وهل العنف الفدائي هو الذي سبق العنف المؤسسي؟ ولكن السؤال لا يخطر لأنه يبدو، كلما تعلق الأمر بإسرائيل، أن الإعلام الغربي مطمئن إلى أن النتيجة («الإرهابية») تقع قبل السبب (الكولونيالي)!
إنها نظرة إعلامية شبه صبيانية. نظرة سمجة تذكّر بقولة ديغول الشهيرة عن نزول الغربيين على الشرق المعقد بحفنة أفكار بسيطة. ولكن رغم أن هذه السماجة مستمرة منذ عقود، فإن الإعلام الغربي استطاع هذه المرة أن يهوي بها إلى الأسخف والأسمج، لكأنه لا غاية له إلا التفوق على نفسه.
كاتب تونسي