يستخدم مصطلح السلطة الرابعة للدلالة على وسائل الإعلام بشكل عام، وعلى الصحافة بشكل خاص. ويستعمل المصطلح في الوقت الراهن لإبراز الدور المؤثر لوسائل الإعلام، ليس في نشر الخبر وتعميم المعلومة والتوعية والتنوير فحسب، بل في تشكيل وتوجيه الرأي العام، وخلق القضايا وتعبئة الناس حولها، فهي تتولى تشكيل أولويات اهتمامات الرأي العام، ومن ثم فهي تلعب دور الوسيط بين الحكومة والشعب، والأمم لدى بعضها البعض. وغالبا ما يتم ربط مفهوم ‘السلطة الرابعة’ بباقي السلطات الدستورية الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، باعتبار أن الصحافة هي سلطة رابعة مدسترة لها نفس تأثير باقي السلط؛ إلا أن السلطة المعنية في المصطلح، تبعاً لتاريخانية هذا المصطلح تدل على القوة المؤثرة للصحافة ووسائل الإعلام في الشعب. وأنا في هذا المقال لا أريد التقعيد أو التأريخ لهذا المصطلح، وإنما أريد أن اعري واقع الاستبداد والطغيان الممارس على هذه السلطة وأهلها. فالتجربة المصرية قبل وبعد الانقلاب العسكري، تؤكد على أهمية ومحورية وسائل الإعلام من جهة وعلى مدى الخلل والنقص الذي يعتري أداء الإعلام العربي من جهة أخرى، فقبل الانقلاب لعبت وسائل الإعلام المؤيدة لجبهة الإنقاذ ولحركة ‘تمرد’ دورا أساسيا ومحوريا في شيطنة الإخوان المسلمين والرئيس د. محمد مرسي عبر ضخ كميات هائلة من المعلومات المسمومة تستهدف بالأساس تشويه سمعة الرئيس المصري وحزبه وجماعته. كما تم تضخيم مجموعة من الأزمات المعيشية ذات الطابع الشعبي، كانقطاع التيار الكهرباء وضعف التزويد بالسولار ورغيف العيش الخ… لكن هذا الإعلام نفسه بعد الانقلاب لم يعالج مطلقا هذه القضايا واستمر فقط في الدفاع عن الانقلاب وتحسين الوجه القبيح لهذه العملية السياسية التي لازالت لم تحظ بعد بقبول من المنتظم الدولي، كما أن أول قرار اتخذ في مصر بعد الانقلاب على الرئيس مرسي هو إغلاق عدد من القنوات والصحف والمواقع الالكترونية الموالية لحكم الإخوان المسلمين. هذه الصورة المصرية لا تختلف كثيرا عن واقع الإعلام بالمغرب، فقد لاحظنا كيف تعامل الإعلام العمومي مع قضية العفو عن دانييل، فقبل توالي بيانات الديوان الملكي لم يتعرض هذا الإعلام للملف وتجاهل تماما الأمر، ولاسيما أن العفو فجر غضب الرأي العام المغربي والدولي، بل حتى بعض الصحف المكتوبة التي تدعي بأنها مستقلة عالجت الموضوع بطريقة توافق مزاج السلطة، في الوقت الذي لعبت فيه الصحافة الالكترونية دورا جد محوري في تزويد الرأي العام بمختلف حيثيات الملف، بتحالف مع الفيسبوك وتوتير.. لكن بمجرد صدور بيان من الديوان الملكي تناسلت تغطيات الإعلام العمومي لملف دانييل، بل حتى بعض مديري الصحف اليومية ـ تحديدا- ابتعدوا عن الموضوع الرئيسي الذي هو الاستبداد وتمركز القرار في يد واحدة، بل أخدوا يطبعون الملف بصبغة الصراع الاقتصادي بين فرنسا واسبانيا وأمريكا على الكعكة المغربية، معتمدين في موقفهم هذا على المعالجة الإعلامية لهذا الملف في الإعلام الأجنبي، خاصة الفرنسي. متناسين أن العفو عن مجرم من عينة دانييل هو أشد خطورة من الانقلاب الذي حصل في مصر، ومن الحرب الأهلية الدائرة في سورية… فالانقلاب في مصر ممكن أن يصل إلى حل توافقي بين أطراف النزاع، وكذلك الأمر في سورية، لكن هل من الممكن أن نجبر ضرر هؤلاء الأطفال الذين جرحت كرامتهم وأنزلوا بدل الدمع دما، إنها قضية أخلاقية لا تقبل أي نوع من التوافقات، فهؤلاء الأطفال هم من سيحكمون البلاد غدا؟ ولكي أوضــــح الفــــكرة أكثر سأعطي هذا المثال: فإسرائيل خاضت حربين من أجل تحرير شــــاليط، ليـــس لأن هذا الشخص ليس له مثيل ولكن لتقول لكل جنودها ومواطنيها إننا لن نتخلى عن أحد منكم مهما كلفنا الأمر مادمتم تنتمون إلى إسرائيل، بل إنها قامت بمقايضة رفات بعض جنودها بحوالي ألف فلسطيني، بينما بعض وسائل إعلامنا تريد تبرير وتنميق قرارا للعفو تنازل عن شرف أزيد من ثلاثين مليون مغربي، إنه بؤس بعض وسائل الإعلام. الواقع اننا لا زلنا نعاني من غياب إعلام حر موضوعي ونزيه ينحاز لإرادة الشعب مع حرصه الشديد على ضمان قدر نسبي من التنوع والتعددية في طرح الرأي والرأي الآخر، تعدد يشمل المعارضة والأغلبية، يحترم صوت الأقليات العرقية والدينية ويضمن حقها في التعبير عن مواقفها وتطلعاتها. للأسف ليس لدينا إعلام بهذه المواصفات، والسبب يمكن إرجاعه إلى عدة عوامل، فمجتمعاتنا العربية لازالت تعاني من أمراض التخلف، كالفقر والأمية وغياب مفهوم الرأي والرأي الآخر، فقاعدة المقروئية والتأييد لازالت جد ضعيفة، وبالتالي فالصحافة لازالت مرتبطة بأجندات خاصة ولم تنخرط بعد في أداء دورها الأساسي في توجبه وصناعة الرأي العام، فهي لازالت في الغالب مجرد أداة في يد الأنظمة الحاكمة ومن يدور في فلكها. كما أن حرية الإعلام وحرية الصحافة لازالت شبه غائبة، فحرية الإعلام لا يمكن فصلها عن الحريات العامة للشعوب والشعوب لازالت مكبلة بقيود الاستبداد والطغيان المحـــلي والأجنبي، فالسلطة مازالت تتعامل مع مجـــال الصحافة والإعــــلام، كأداة أساسية في تمرير مخططاتها السياسية، وإستراتجيتها في المجتمع، تارة عن طريق التحكم في عدد من الصحف وفــــي وسائل الإعلام المرئــــية والمسموعة، وتارة أخرى في التضييق على حــــرية التعبير، وفي العديد من الأحيان، تلجأ إلى افتــــعال مشاكل ونزاعات، بل وتخلق توترات في المجــــال السياسي، عبر قمــعها لحرية الصحافة وتعريض بعض المؤسسات الصحافية إلى المحاكمة أو الرقابة أو الحجز والمنع. وتحاول السلطة أن تستعمل عدة مبررات سياسية ودينية وأخلاقية لتمرير هذه الإجراءات. فهناك، من جهة، التركيز على كل ما يمس المؤسسة الملكية أو المؤسسة الحاكمة، وشخص الملك أو الرئيس في ‘الجملوكيات العربية’ في بعض الحالات، وهناك أيضا ما يسمي بالمس بالأخلاق وبالدين الإسلامي… مع العلم أن المؤسسات السياسية والدستورية القائمة بهذه البلدان هي الاكتر إساءة للأخلاق والقيم الدينية، نتيجة لتبنيها أساليب الكذب والخداع والتضليل في إدارة شؤون البلاد والعباد . اعتقد أنه لا مجال للحديث عن الديمقراطية وباقي مرادفاتها طالما أن سلطة الإعلام لازالت مغتصبة من قبل حكام مستبدين من جهة وأباطرة الفساد من جهة أخرى.. وهؤلاء جميعا انتماؤهم وأجنداتهم الخاصة في الغالب تكون ضد مصالح شعوبهم.