تتميز رواية « النبيذة» للروائية العراقية إنعام كجه جي بمنظورها الذي يحدد مقولة الرواية، أو مقاصدها الدلالية، إذ تكتسب المناطق التاريخية موقعا موازيا للحادثة المتخلية، غير أن بين هذين التكوينين لا نكاد نعثر على مساحة شاسعة من التباين، فأحداث التاريخ تجسيدا للمنطوق، وبهذا فإن التحليل للتشكيل السردي يتحدد بمصائر ثلاث شخصيات تتقاطع في إطار مرجعية تاريخية.
يلاحظ أن السرد يبدو للوهلة الأولى قائماً في موقع متعال من حيث وجود الراوي العليم الكلي، الذي يبتعد ويقترب من السّرد اليقيني بالمستوى عينه؛ ليضع الشخصية في مواجهة ذاتها، إذ تبدو الفجوات المرتبطة بالأحداث كاللقاء غير المكتمل بين الفلسطيني «منصور البادي»، والعراقية «تاج الملوك» في ظل حضور شخصية ثالثة «وديان»، التي تمثل تصوراً لتأطير علاقة (بادي – تاج الملوك) على مستوى المتلفظ السردي.
هذه الشخصيات تأتي في سياق انحراف تاريخي، زاده أفول المقولات القومية والوطنية، وانحسار الأحلام الكبرى، وهكذا تتخذ الرواية منحى بيانيا يتسم بالتهاوي، الذي يكاد يقترب من الكآبة التي تطفو على مزاج العمل، فمجمل الشّخصيات تتشارك التاريخ وتشوهاته، غير أن هذه التّشوهات لا تتوقف على وجود تاج الملوك ومنصور البادي فحسب، إنما تشمل وديان – محور المنظور السّردي)- التي تشترك معهما في هذا المصير.
تشكل شخصية «تاج الملوك» بتعدد هوياتها وأسمائها، كما اللغات الناطقة بها، متن العمل السردي، بوصفها عنصراً سردياً يستقطب الذوات الأخرى في فلكها، ونعني منصور البادي ووديان، فتاج الملوك – الصحافية الشابة، والجميلة المتهورة، المثقفة، هي نتاج قيم ربما تبدو للوهلة الأولى غارقة في تناقضها، وهي أيضاً في تكوينها تبدو شخصية جدلية، ولاسيما من حيث دورها ووظيفتها، ومن هنا ينتج السؤال المركزي في تشييد العمل والوظيفة التي ترغب الرواية في تمكينها في وعي المتلقي، وهي تستند في مجملها إلى قيمة هجائية لمسار تاريخي يتصل بالمنظور العربي، الذي ينبذ هذه الذوات، ويكسرها على مستوى الممارسة والفلسفة.
يلاحظ أن التعدد في الأسماء كما في «تاج الملوك» أو «شامبيون، أو تاجي، يتصل باضطراب الهوية، فضلاً عن المرجعية الثقافية، كما الامتدادات المنبثقة من ذات تاج الملوك، ونعني الأحفاد والأبناء حيث يتصل بعضهم برجل إيراني، وفرنسي. وهذا يشير إلى أن تاج الملوك تكتسب حضوراً منفتحا على الهويات الأخرى والأديان، استجابة لتصور إنساني متعال.
شخصية «تاج الملوك» بما تمتلكه من علاقات مع كبار الساسة أو كبار الشخصيات، أثناء الحكم الملكي في العراق، بالإضافة إلى علاقتها بالسفراء والساسة، تبدو وفية لموقفها في مواجهة تحولات السلطة التي صنعتها، غير أن موقفها سرعان ما يتغير بعد توقيع الاتفاقية مع بريطانيا، وهنا تضطر «تاج الملوك» للتنازل عن حظوتها، لتغادر العراق إلى جهات متعددة منها: إيران، وباريس وباكستان، حيث تتعرف في الأخيرة على زميلها الفلسطيني منصور البادي، في حين تنجب طفلاً من رجل إيراني، ومن ثم تتزوج رجلاً فرنسياً، فضلاً عن وجود الكثير من الرجال الذين يطلبون ودها، والقرب منها، ومنهم السفير الباكستاني، ومع ذلك، فإنها تتعلق روحياً بالفلسطيني منصور البادي… ذلك الشاب اليافع الذي يصغرها بالعمر، وهنا لا يمكن أن ننكر قيمة دلالية قائمة بين هاتين الذاتين اللتين تتشاركان معنى العطب على مستوى الهوية، والنبذ في مجمل التشكيل المقصدي.
تعود جذور تاج الملوك إلى أصول إيرانية، غير أنها تنشأ في العراق بعد أن تتزوج أمها من رجل عراقي، يمنحها اسمه، وحبها للشعر والثقافة، في حين تشكل الجغرافيات الأخرى وجودها. لا بد أن هذا التشكيل المتعدد الأطياف يعني إحالة لتقويض النقاء الخاص بالهوية، فشخصية تاج الملوك شخصية غير مكتملة، كونها تحتفي بطابع متجدد وحيوي… حتى في الثمانين من عمرها. إن التشكيل غير المستقر للهوية، ربما يُقرأ على أنه طاقة للانفتاح على الثقافات الأخرى، والديانات والأعراق، غير أن ثمة ثوابت في تكوينها، وتتحدد في التزامها بقضايا القومية، على الرغم من علاقتها المتوترة مع السلطة، وهذا يمتد ليطال أيضا علاقتها مع الآخر المتجسد بالتكوين الاستعماري ممثلاً ببريطانيا وفرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية.
في السّياق الكولونيالي نقرأ موقف «تاج الملوك» الذي يتجلى بمشاركتها في المظاهرات ضد توقيع معاهدة مع بريطانيا، ومن ثم زواجها من رجل فرنسي يعمل في المخابرات، حيث يقوم بعمليات تشاركه بعضها تاج الملوك، باستثناء واحدة، حيث ترفض التورط باغتيال المناضل أحمد بن بلة (أحد قادة الثورة الجزائرية)، كما يتجسد الحضور الكولونيالي، عبر التمعن في السياق التاريخي من حيث حركة الإمبراطوريات الاستعمارية في المنطقة، والصراع على الهيمنة بين كل من بريطانيا وأمريكا وروسيا وفرنسا، بعد الحرب العالمية الأولى، خاصة تقاسم النفوذ بحيث تتولى بريطانيا نفط إيران والعراق، في حين تتولى أمريكا الأمر في المملكة العربية السعودية.
إن شخصيتي وديان وتاج الملوك أقرب إلى معادلة ربما تكون تكاملية أو متنافرة، فثمة مشترك، ونعني المنفى، غير أن تاج عاشت جزءاً من وجودها المادي بالحب، في حين أن وديان فقدته بالكلية.
ومن الإشارات اللافتة، ما يأتي من تشهّي الفرنسيين للنساء الشرقيات أو صبايا المستعمرات السابقة، فالنزعة الخاصة بتميكن المقولة الكولونيالية تُستعاد مرة أخرى في غير موقع، وبالتحديد في المنفى الفرنسي، حيث نقرأ إشارات إلى واقع المهاجرين من المستعمرات السابقة. وهذا يأتي ضمن تجليات نقد العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، وقوامها التنكر الذي تقوم به الإمبراطوريات لرعاياها الذين ساندوها في حروبها الكونية، بالتوازي مع إشكالية الهجرات، حيث جاء على لسان «وديان»: «يرضيني أن ألفّق آصرة قومية مع حجارة الشارع. عمال عرب أمضوا أعمارهم في رصفها، جاؤوا من الجزائر والمغرب بعد الحرب وعمّروا باريس الجديدة. لا شفاء لي من دار العروبة».
إن القاسم المشترك بين حيوات تاج الملوك ومنصور البادي البروفيسور الفلسطيني ووديان الفتاة العاشقة للموسيقى، يتضح من تقاسم فعل الإقصاء عن الوطن: «مقدسي وبغداديتان، تفصل بينهما سنوات لا تشبه ما يمر على أعمار الناس العاديين في البلاد الطبيعية. ولهان مخضرم، وعاشقتان مغدورتان. جنازة وطنية رمت بالأولى خارج الحدود. وحفلة تنكرية طردت الثانية من جنة السماع. لا أدري من منا النبيذة».
هذه الشخصيات بدت معطوبة، على الرغم من نجاح البرفيسور الفلسطيني في فنزويلا، غير أنه يدرك أن وجوده بات منقوصاً، بينما «تاج الملوك» التي عاشت مغامرة الحياة، تنتهي إلى النبذ، وأخيراً شخصية «وديان» التي أعطبت روحياً وفيزيائياً. فالنبيذة التي نقرأ معانيها بتعالقها مع النبيذ أو النبذ؛ أي النفي، كما الإقصاء الذي يربط بين هذه الشخصيات، حيث تنبذ تاج الملوك من وطنها العراق بعد المواجهة مع المستعمر البريطاني، كما تنبذ من عملها في باكستان، وأخيراً تنبذ من مسقط رأسها في إيران، على الرغم من أن هذه المناطق هي أوطان الجذور والهوية والانتماء والدين: «غريبة … لا وطن لتاج الملوك كمثل خلق الله. تتسمى به ولا تعود غريبة».
ولعل فعل النبذ يعدّ إحدى أهم مقولات الرواية، فالوجود يحضر في الطارئ في المنفى، فالأوطان – على ما يبدو- إما أن تكون مستلبة كما لمنصور البادي الذي لا يتمكن من العودة لوطنه، وإما أنها تضيق بالأحرار: «أما هو فحكايته مختلفة، لأنه سليل النكبة التي فرقت عائلات كثيرة. حمل أبناؤها العديد من الهويات في هجراتهم، وظلت شهادة ميلاده في القدس ذخرا يعتز به».
إن الاضطراب القائم على نزعات التشظي للهوية والوجود الفلسطيني يتخذ موقعه في متن الرواية، فهو دلالة سائدة لا متنحية، فمنصور البادي يدرك أن العودة باتت أمراً صعب المنال؛ نتيجة المحو الوجودي؛ ولهذا عليه أن يبحث عن أرض جديدة ليؤسس حياته فيها، في حين أن الكتابة تمسي علاجاً مسكناً في المنفى، فهو يمارس كتابة يومياته بوصفها نموذجا للمقاومة: « ثم تذكر بأنه يكتب لجيلين لم يعرفا فلسطين». تبدو شخصية «وديان» أقرب إلى شاهدة على تاريخ العراق بدءاً بالحرب الإيرانية العراقية، والحصار الأمريكي، بعد غزو الكويت، انتهاء بالحرب الأخيرة، وانهيار الدولة، مع نقد واضح لتسلط النخب الحاكمة، وأبنائهم، حيث يقود نهجهم إلى تدمير بنية البلد، وقبل ذلك تدمير بنية الإنسان مجسداً بشخصية «وديان» التي يطالها أذى ابن المسؤول الذي يتسبب بعطب سمع الفتاة، ما يحرمها من شغفها الموسيقي، وأن يتخلى عنها خطيبها، لتعيش حرمانا روحيا وجسديا، حيث تنبذ كامرأة من وطنها، كما تنبذ من إحساسها بأنوثتها ليتحول جسدها إلى مشاع لذوات أخرى، ما يعني نوعاً من أنواع الانتهاك الرمزي للعراق.
إن شخصيتي وديان وتاج الملوك أقرب إلى معادلة ربما تكون تكاملية أو متنافرة، فثمة مشترك، ونعني المنفى، غير أن تاج عاشت جزءاً من وجودها المادي بالحب، في حين أن وديان فقدته بالكلية. ولعل الانبعاث الرمزي لشخصية «وديان» يكاد لا يختلف عليه اثنان، بوصفها تجسيدا لنمط السقوط أو الانحدار للأوطان الحديثة، أو أوطان ما بعد الاستقلال، فوديان عبر تحليل علاماتي تعني الوادي؛ أي المنفرج بين جبلين: «أقارب الأربعين وتتجاوز الثمانين. عمر منفاها أكبر من عمري. هجرت كل منا ماضياً لم يتركها. عاشت تاجي بالحب، وأنا متّ من دونه. قطبان سالب وموجب».
وختاماً، تنتهي هذه الذوات مجتمعة في المنفى، أو في العالم البعيد عن الوطن، فوديان تحصل على منحة للعلاج في فرنسا، وتاج الملوك ينتهي بها المقام هناك أيضا، في حين أن منصور البادي ينتهي به الأمر مستشاراً في فنزويلا للرئيس شافيز، ليكون ضمن سلالات الشتات التي نشأت بعيدا عن فلسطين الوطن. وهكذا تقترب الرواية في تمثيلاتها من صيغة ذات طابع تحولي، حيث تبدأ تاج الملوك في تسجيل صوتها، وهو يتلو القرآن الكريم، في حين تنزع «وديان» نحو الانخراط في جمعيات حوار الأديان، ما يعني تخليق نموذج نسقي من شكل التحولات التي باتت تلامس الذات العربية في اغترابها عن ذاتها، في حين تبقى دلالة الاقتلاع، والاغتراب في رمزية النخلة التي تزرع في غير موطنها، وهنا نستدعي أبيات صقر قريش في منفاه كي ينغلق النص، إلى تمكين نسق النبذ بوصفه الصيغة السردية الأكثر بروزا في مجمل الرواية.
٭ كاتب أردني فلسطيني
الكاتب العزيز العربي الأصيل أ.رامي
انت كاتب عربي لماذا تخضع لهذه التقسيمات وانت في بلد هو ويث الثورة العربية الكبرى
تصحيح الخطأ المطبعي:
وريث
جهود مميزة بذلتها الروائية انعام كجة جي في إنجازها هذا النسيج المتناسق الألوان في رواية النبيذة التي تستحق القراءة أكثر من مرة !