الإنتماء للزمن !

حجم الخط
2

درجت في الفترة الأخيرة مصطلحات كانت تعتبر حتى الأمس القريب طوباوية ومغرضة. من بين هذه المصطلحات الإنتماء للزمن أو الى العصر. في مضمون المصطلح هذا دعوة، ولو مضمرة، لزمن معروف، واحد أوحد، يسود الكون باعتباره فوق الزمان والمكان. القياس عليه يعين على تشخيص حالة مَرَضية دواؤها معروف مسبقاً. فمن يتحدث عن ضرورة الإنتماء إلى الزمن يميل إلى الإعتقاد بأننا قطعاً خارجه. وبما أن الزمن هنا، كوني، لا زمن خارجه فإنه علينا ان ندخل فيه.
هذا النوع من المصطلحات ينطلق من فرضيات فكرية تعتقد بنظريات الفوق-كونية. بثنائيات الخير والشر المطلقة. الزمن واللازمن. العصر واللاعصر. يقرأ ما يجري في بلادنا على أساس المقارنة مع هذا ‘الزمن’ الكلّي القدرة، لا على أساس الصراعات الملموسة التي تشكل في لحظة معينة من تاريخ المجتمعات موضوع تناقضاتها وانقساماتها. وبدلاً من التاريخ ومحركاته يكتفي هذا الفكر بالأفكار المطلقة التي يصح استعمالها في كل زمان ومكان وفي أي صراع اجتماعي مهما كان موضوعه أو تاريخه أو مساحته وحجمه أو مكانه الجغرافي.
الدعوة للإنتماء للزمن قائمة إذن على فرضية إرادوية. الزمن في هذه الحالة لا ينتظر إلا قرارنا. يكفي أن نريد الدخول فيه حتى تتم الدخلة. الزمن مقولة حرّة ومعروضة على الجميع بدون أي عوائق سوى غياب الإرادة الشخصية. الشعوب مخيّرة في الدخول أو لا في الزمن. الزمن نوع من جنّة على الأرض ينتمي إليها من يملك الإرادة ويبتعد عنها من فاتته الفرصة. هكذا ببساطة. الزمن طليق لا يملكه أحد ولا تحجبه حقيقة. الزمن لمن يريد. الزمن بما حمل من حريات وديمقراطية وانتخابات وفصل سلطات وقضاء وقانون وحق ودولة مؤسسات وتداول سلطة وحرية رأي وصحافة حرّة وما إلى ذلك من خيارات.
الدعوة إلى الإنتماء للزمن تفترض ليس فقط وجوده كحقيقة مطلقة، بل تذهب إلى حد الإعتقاد بحاجة الجميع إليه تالياً. فكل الشعوب تتمنى الإنتماء إليه وإنما هناك دون ذلك قوة ما تمنعها أو تحجب عنها الحقيقة. يكفي لتجسيد الأمنية ان يقول لنا هؤلاء الكتّاب الحقيقة حتى تُزال الحجب عنها فننتقل إلى الزمن بتؤدة لكن بثبات أكيد. الزمن معروض على جميع الشعوب مجاناً ومن لم ينتمِ إليه بعدُ فمشكلته فيه. مشكلته في رأسه، في أوهامه التي تسربله، في تاريخه اللازمني، في عقله الباطن، في نفسيته المريضة، أو في ‘تخلفه’ بالمختصر.وكأن ‘ الزمن ‘ المقصود ليس إبن أي تاريخ محدد، وليس إبن أي تطور تاريخي لقوى إجتماعية نمت وترعرعت في نمط عيش معيّن.
هذا ‘الزمن’، في ذهن هؤلاء الكتّاب، لا ينتمي لزمنه. وليس محكوماً هو نفسه بما يجعله غير ممكن لشعوب أخرى بهذه البساطة. ببساطة لأن زمنها غير زمنه، ونمط عيشها غير نمطه، واجتماعها غير اجتماعه. الزمن بالنسبة إليهم ما يرونه هم وما يرغبونه هم وما يريدونه هم. الزمن بعشقه لا بإمكانه. الزمن بالنسبة لهكذا مدارس عو عبارة عن الفارق بين ما أنت وما يجب أن تكون. وتضييق الفارق موجود في الإرادة البشرية بتضييقه. لا موانع خارجية أخرى.
لا أطماع في الأزمان ولا مصالح متناقضة لا في داخل الزمن ذاته ولا في خارجه. ولا خلافات جوهرية بين الشعوب المنتمية للزمن والشعوب غير المنتمية. وأما الشعوب المنتمية للزمن، فمن فرط انتمائها له وقناعتها به وبأخلاقه الكونية وقيمه الواحدة الموحّدة، فهي تفتح الطريق أمام الشعوب المضللّة التي لم تهتدِ بعد. لا صراع في الزمن ولا مصالح متناقضة. الزمن هو الأصل وكل ما عداه فروع. وأما الفروع فمصيرها الأوحد الدخول في الأصل. إذ لا زمان خارج هذا الزمن.
عدم الإنسجام في الكون، حسب هذه المدارس، كامن في من قبل بالإنتماء للزمن وفي من رفض. هكذا ببساطة كلّية. الزمن هذا هو الحضارة والتقدم والاستقرار. ومن هو خارج الحضارة والتقدم والاستقرار هو من رفض أن يقتنع بقيمه الكونية. هكذا هي البشرية. قسم اقتنع وقسم لم يقتنع، أو لم يقتنع بعدُ.
واما التاريخ، تاريخ الشعوب، فلن يكون في هذه الحالة أكثر من تأريخ لهذه القناعة. المصالح المتناقضة حول أنماط العيش تفصيل فرعي لها. الحروب على أنواعها مجرد حروب حول هذه القناعة. الأقوياء يحاربون الضعفاء لفرض الحضارة إذن. وحروب الضعفاء حروب رجعية لأنها ترفض الإنتماء للزمن. الضعفاء لغتهم خشبية قديمة ترفض العصر وتتمسك بالماضي. الضعفاء ضعفاء لأنهم متخلفون والأقوياء أقوياء لأنهم تجاوزوا قناعاتهم المتقادمة.
لكن التجارب التاريخية تقول أن سيطرة الأقوياء الحضاريين على الضعفاء البدائيين لم تنته بنقل الحضارة إليهم بل بتأبيد تخلفهم وضعفهم. وبدلاً من فتح الطريق إلى الزمن والعصرنة قام الأقوياء بسد طريق الزمن أمامهم كلياً. الأمر الذي يعني ان هناك خلافات أخرى بين الطرفين غير الموقف من الزمن والعصر.
سردية الإنتماء إلى الزمن والعصر سردية تعكس بالنسبة للمولعين بالإقتداء بالغالب سردية الغالب نفسه. فهي عدا عن كونها لا تعكس حقيقة الصراعات وأسباب انقسام الناس العميقة فإنها لا تقدم الأدوات الفكرية الضرورية للخروج من المأزق الحالي. إذ لا يكفي الضعيف والتابع والمنهوب أن يقتنع بحضارة الناهب وقيم القوي حتى يصير مثله حضارياً وقوياً. ربما كان بحاجة إلى أدوات قوته المادية التي تحتاج بدورها إلى استعادة الموارد المصادرة والتحكم بها. وهنا يكمن ربما لبّ المشكلة. فالغالب الذي يهيمن على الضعفاء ويسعى لتأبيد سيطرته يلجأ إلى استعمال قوته مرتين. مرة لكي يحتل ويمنع عن الآخر إمكانية القوة، ومرة لكي يقنع الضعيف بأن عدم لجوئه لقيم المهيمِن هي سبب ضعفه وخضوعه. يسعى المسيطرون إلى إقناع الضعيف بأن المزيد من سيطرة القوي هي باب دخوله الوحيد إلى الزمن والعصر.
كاتبة لبنانية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابو سامي د.حايك:

    موضوع شيق جذبني أيضا في وقت معيّن فقلت :
    الناس و الزمان

    ِلكلِّ زمانٍ له أهلُهُ
    و لا لزمانٍ له مثلُهُ

    و ليس بسابق مثلُ لاحقٍ
    و لا لاحقٌ مثلُ ما بعدَه

    كذا الأيام في التوالي ممالكاً
    و كلُ مليكٍ له فيها عرشُه

    عرش الكمال لا يُقرن به
    ما مضى من ممالكَ قبلَه

    و كل جيل يحسب أنه
    كلّ الدّنى قد دانت له

    و الناسُ فُروعٌ من ثوابتٍ
    و الفرع في الثوابت أصلُه

    و إن علا فرعٌ فإنّما
    ما اعتلاه هو فرعُه

  2. يقول أبو جمال:

    تاريخ المجتمعات البشرية مند ظهور أشكال الملكية لوسائل الإنتاج (قطعان الماشية و المراعي و الزراعة ) و إلى المرحلة الصناعية و التكنولوجية في الفترة المعاصرة و هو صراع حول التحكم في وسائل الإنتاج من خلال الإستحواد على السلطة ,و تعتمد القوى المهيمنة أيديولوجيا معينة لتبرير هيمنتها و الحفاظ على استمرارية تسلطها , ولعل أبرزالأشكال الأيديولوجية السائدة في العالم العربي خلال العقود الأخيرة هي الحديث عن الخصوصية و خاصة في شقها التيوقراطي

إشترك في قائمتنا البريدية